أظهرت بيانات يُمكن وصفها بالصادمة، أن نسب عمالة الأطفال في تونس تبلغ 9.5 في المائة من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين خمسة أعوام و17 عاماً، علماً أنّ العدد الإجمالي للأطفال التونسيين في مثل تلك السنّ هو مليونان و273 ألفاً.
تشهد تونس تزايداً لافتاً في حجم عمالة الأطفال، على الرغم من القوانين الصارمة ومحاولات المجتمع المدني لتوعية المجتمع للحدّ منها. وقد أظهرت الأرقام الرسمية ارتفاعاً واضحاً في عمالة الأطفال التونسيين بحسب آخر مسح وطني صادر عن معهد الإحصاء بالإضافة إلى بيانات وزارة الشؤون الاجتماعية ومنظمة العمل الدولية التي أثبتت أنّ أكثر من 215 ألفاً و700 طفل يمارسون أعمالاً لقاء مقابل بهدف تأمين الرزق، أي ما نسبته 7.9 في المائة من مجموع الأطفال. من بين هؤلاء 179 ألف طفل مجبرون على العمل، 66 ألفاً و100 من الفتيات و113 ألفاً و800 من الفتيان وجميعهم تتراوح أعمارهم بين خمسة أعوام و17 عاماً، مع العلم أنّ القانون التونسي يجرّم تشغيل تلك الفئة العمرية.
وتفيد البيانات الرسمية بأنّ 136 ألفاً و500 طفل يشتغلون في أعمال تصنّف خطرة وتتراوح أعمار 76 ألفاً و400 طفل منهم بين 12 عاماً و15. أمّا القطاع الزراعي فيستأثر بالقسم الأكبر من عمالة الأطفال، ويشتغل فيه نحو 48.8 في المائة منهم، فيما يشتغل نحو 20.2 في المائة منهم في مجال التجارة، وتتوزّع النسبة الباقية على مجالَي الصناعة والإنشاءات وغيرهما.
عند إشارة مرور مفرق المنزه السادس الذي يُعَدّ بوابة لأحد الأحياء الراقية في العاصمة تونس، يبيع وسيم (11 عاماً) باقات المشموم التونسي وأطواق الياسمين لسائقي السيارات وركابها وكذلك للمارة هناك. ما أن تتوقّف السيارات وقد صارت الإشارة حمراء، يقترب من هؤلاء مستعطفاً إيّاهم، فيشترون منه ما يعرضه إمّا طوعاً وإمّا إحراجاً وإمّا شفقة. ويرفض وسيم الكشف عن اسم من يشغّله، مكتفياً بالقول لـ"العربي الجديد": "نجحت في الامتحانات وتفوّقت في دراستي وأنا أعمل فقط في أيام العطل والأعياد لأساعد عائلتي التي تمرّ بوضع مالي صعب". يضيف وسيم: "أشتري باقات المشموم من صنائعي يعدّ كميات كبيرة منها وأدفع له بعد الانتهاء من بيعها كلها. وأنا أجني المال من عرق جبيني ولا أتسوّل الصدقات"، لكنّه لا يخفي أنّ "ثمّة من يغدق عليّ من كرمه". وينفي وسيم علمه بأنّ القانون يمنعه من الشغل ويعرّض عائلته إلى الملاحقة القانونية، بالنسبة إليه فإنّ ما يقوم به مفيد ومن شأنه أن يساعد عائلته.
في السياق، تقول رئيسة لجنة شؤون المرأة والأسرة والطفولة والشباب والمسنين في البرلمان التونسي، سماح دمق، لـ"العربي الجديد"، إنّه "لا تتوفّر إحصاءات دقيقة حول هذه الظاهرة على الرغم من الاهتمام الكبير لمختلف مؤسسات الدولة بعمالة الأطفال"، مشيرة إلى أنّ "التشريع التونسي يجرّم تشغيل الأطفال واستغلالهم اقتصادياً وتجارياً". تضيف دمق أنّ "البرلمان التونسي صادق في إطار حرصه على حماية هذه الشريحة العمرية على قانون يجرّم الاتّجار بالبشر ويمنع تشغيل القصّر وينصّ بحسب أحد بنوده على: منع كل أشكال الاستغلال التي يمكن أن يتعرّض لها الأشخاص، وخاصة النساء والأطفال ومكافحتها بالوقاية من الاتّجار بهم وزجر مرتكبيه وحماية ضحاياه ومساعدتهم".
وتشدد دمق على "ضرورة تكاتف كل الأطراف للقضاء على هذه الظاهرة، ولا يجب التعويل على السلطات بمفردها لردع المخالفين. لذا لا بدّ من حملة توعية تمسّ عمق المجتمع ومختلف الجهات حتى تتغير العقلية وتتحوّل الإرادة الشعبية نحو القطع مع تلك الممارسات". وتتابع أنّ "الأهم هو اقتناع المواطن بعدم إجبار أبنائه على العمل في الحقول والورش (باختلافها) والمحلات وتشبيعه بثقافة حقّ الطفل في اللعب والترفيه والتعليم في تلك السنّ التي تتميّز بخصوصيتها".
من جهة أخرى، يرى بعض التونسيين ضرورة تعليم الأطفال بعض الحرف والمهن منذ نعومة أظافرهم، إيماناً منهم بأنّه لا بدّ من توريث بعض المهن، بالتالي يفضّل تعليم الصغار أصولها مبكراً ليتمكّنوا من الحلول محلّ ذويهم. رجب الذي يعمل ميكانيكياً في حيّ الزهور بأحد الأحياء الشعبية غربي العاصمة أحد هؤلاء، بالنسبة إليه فإنّ "عمل الابن في ورشة أبيه ليس مخالفاً للقانون ولا يمسّ بكرامته ولا بحقّه في اللعب"، مؤكداً لـ"العربي الجديد": "أريد لابني أن يكون رجلاً بالمعنى الحقيقي ليتحمل المسؤولية بدلاً من أن يصير منحرفاً أو متخاذلاً أو عاطلاً من العمل". ويؤكد رجب أنّ "ابني هو وريث محلّي. وإلى جانب إيماني بأهمية الدراسة، فإنّ مهنتنا تدرّ عليه ذهباً ويمكنه أن يتقاضى منها أكثر من الأجور التي يتقاضاها المهندسون والأطباء"، مشيراً إلى أنّه يسمح له بالذهاب إلى المدرسة "لكنّه يتوجّب عليه تعلّم أسرار المهنة التي لا أرغب في كشفها إلا له... فهو وريثي". وإذ يشدد رجب على أنّه يعلم جيداً أين تكمن "مصلحة ابني" وأنّه يبحث عن "ضمان مستقبله ومستقبل العائلة، يقول إنّ "حقّ ابني في اللعب مكفول أيام الأحد والسبت ومتى أنهى عمله باكراً".