تونس.. النجاة من المصادفة

29 يونيو 2019
+ الخط -
عادة، يكون الدستور عنصراً أساسياً للجم أي حالةٍ تنشأ من مصادفةٍ ما. وهو أمر تنبّه له المشرّعون في مختلف الدول، سواء في محيطنا الإقليمي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أو في الحيّز العالمي. مع ذلك، المصادفة بحدّ ذاتها تثير البلبلة في لحظة حدوثها لأنها مصادفة. وغالباً ما تكون "المصادفة" حادثة اغتيال تغيّر مجرى الأحداث بشكل عنفي، كما في لبنان بعد اغتيال رئيس وزرائه رفيق الحريري عام 2005، أو اغتيال الأرشيدوق فرانز فرديناند عام 1914، الذي توّج سلسلة أحداث وتراكمات سابقة في أوروبا، أدت إلى حربٍ عالميةٍ أولى استمرت حتى عام 1918.
في تونس، كانت "المصادفة" وعكة صحية أُصيب بها الرئيس الباجي قائد السبسي، أول من أمس الخميس، وتزامنت مع تفجيرين في العاصمة التونسية تبنّاهما تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). هذه "المصادفة" جعلت السلطات التونسية تستعين بالدستور، في حال تطوّرت حالة السبسي سلبياً، لكنها في الوقت عينه شرّعت الأبواب أمام احتمالاتٍ شتّى، قد تزعزع المسار الديمقراطي التونسي الذي تمّ إرساؤه بعد ثورة عام 2011. مسار تلقى ضرباتٍ عديدة لكنه ظلّ صامداً، ومضى في تعزيز سلسلة قوانين مرتبطة بالمرأة وبالمواطن. وعلى الرغم من الأزمات الاقتصادية، والاعتداءات التي ضربت مناطق عدة في البلاد، استمرت تونس في مسارها.
اليوم، بات الوضع الصحي للسبسي المقياس الأساسي للمشهد التونسي، سواء في احتمال تأجيل الانتخابات التشريعية المقرّرة في 6 أكتوبر/تشرين الأول المقبل، أو تأجيل الانتخابات الرئاسية في دورتها الأولى في 17 نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وفي الدورة الثانية في 24 نوفمبر، في حال لم ينجح أي مرشح في تجاوز عتبة الـ50% في الدورة الأولى. هنا المحكّ الحقيقي لكل محطات العملية الديمقراطية التونسية. لا يعود السبب إلى الداخل التونسي فحسب. دائماً ما يتأثر أي بلدٍ بحيّزه الجيوبوليتيكي، فكيف في حالة تونس، وهي الدولة الأصغر بين جارين كبيرين غارقيْن في توتراتٍ، سياسية بالنسبة للجزائر التي لم تتفق فيها المعارضة مع الجيش في تأمين مرحلة انتقالية بعد تنحّي الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في 2 إبريل /نيسان الماضي، وعسكرية بالنسبة لليبيا التي بدأ اللواء المتقاعد خليفة حفتر فيها حرباً ضد حكومة الوفاق في طرابلس، في 4 إبريل/ نيسان الماضي، ولم تتوقف بعد، على الرغم من محاولات أممية لوقفها وإعادة المتقاتلين إلى الحلّ السياسي.
من الطبيعي تأثر تونس بوضع البلدين، سواء لأسباب اقتصادية، في حالة اضطراب الحركة التجارية، أو لأسبابٍ اجتماعية في حالة لجوء الليبيين الهاربين من العنف، أو لأسبابٍ سياسية، متعلقة بمدى قدرة تونس على "النأي بالنفس" بين مختلف الأطراف في البلدين المتجاورين. بالتالي، حصلت "المصادفة" في وقتٍ حساس، يُلزم تونس الحفاظ على ديمقراطيتها، حلّا مركزيا لكل الصراعات، بل واحةً يُمكن الاقتداء بها في الشمال الأفريقي. العنف لا يولّد سوى العنف، والدم لا يمكن وقفه سوى بوضعيةٍ سياسية. ومن تحدّيات "المصادفة" احتمال لجوء الجيش التونسي، على الرغم من ضآلة هذا الاحتمال حالياً، إلى التحرّك بغية وضع حدٍّ، وفقاً له، لأي انزلاقٍ يؤدّي إلى انعكاس الاضطراب سلباً على الشارع. وهذا ما يعني تحوّلاً من المنطق السياسي السائد إلى منطق عسكريتاري، يقمع أي فكرة سياسية خارج إرادته، بل يُمكن حتى اتهامها بالخيانة العظمى للوطن.
يبدو التونسيون حتى الآن متمسّكين بثورتهم ونتائجها، وهو أكثر أمر يمكن تلمّس إيجابياته. وهذه الإيجابيات في حاجةٍ إلى ترجمة فعلية، عبر المحافظة على المنطق الدستوري الذي توافقت عليه مختلف الأطراف التونسية، وتعمل بموجبه.
الإيجابي أيضاً في الوضع التونسي أن مختلف الأحزاب استوعبت الوضع الطارئ، مدركةً أن أي خيار خارج إطار الدستور هو انتحاري. لا تحتاج تونس إلى الانتحار، وهي قادرة، بفعل تراكماتها الإيجابية، بعد عام 2011، على تعليمنا درسا ديمقراطيا جديدا، باسم "النجاة من المصادفة".
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".