تونس: أرشيف الرئاسة يثير جدلاً جديداً

29 ديسمبر 2014
الأمن الرئاسي منع تسليم الأرشيف (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -

شهدت تونس زوبعة قانونية وسياسية بعد توجّه رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين إلى القصر الرئاسي، ومطالبتها باستلام أرشيف الرئاسة، قبل أيام من تسلّم الباجي قائد السبسي منصب رئاسة الجمهورية، ولكنها جوبهت بالرفض من قِبل نقابة الأمن الرئاسي التي منعتها من الدخول إلى القصر، مشيرة إلى أنها تلقّت تعليمات من السلطة السياسية القديمة والجديدة بذلك، في حين أعلن ديوان الرئيس المنتهية ولايته منصف المرزوقي أن هذا الموقف للأمن الرئاسي لا يلزمه، من دون إعطاء توضيح إضافي.

وأعلن عضو هيئة الحقيقة والكرامة خالد الكريشي، أن الهيئة ستتخذ الإجراءات القانونية اللازمة إزاء هؤلاء العناصر طبقاً للفصل 66 من قانون العدالة الانتقالية، بسبب ما أبدوه من "استهتار بقوانين الدولة ومؤسساتها في الوقت الذي تستعد فيه البلاد لإرساء الجمهورية الثانية"، على حد قوله.

وتعليقاً على هذا الموضوع، يؤكد رئيس المعهد العربي لحقوق الإنسان عبد الباسط بن حسن لـ"العربي الجديد" أن "المشهد كان عجيباً وغريباً ولا يمكن أن يحصل إلا في البلدان الفاشلة التي فقدت المعايير المدنية"، معتبراً أن "هذه المسرحية السيئة للعدالة الانتقالية تبدو في ظاهرها خلافاً حول تطبيق القانون والإجراءات، ولكنها في الحقيقة إهانة لمثُلنا، لأنفسنا ولرؤيتنا لحضارتنا وتاريخنا".

ويوضح بن حسن أن "مسار العدالة الانتقالية يتطلب، إضافة إلى القوانين والإجراءات، جواً من الإجماع الوطني بالابتعاد عن كل ما يمكن أن يؤدي إلى الإثارة والارتباك والبلبلة في هذا الوضع المعقد والدقيق في تونس، فقضية الأرشيف لا تتعلق بالإجراءات بقدر ما تتعلق بذاكرة شعب من الشعوب يجب التعامل معها بقدر كبير من الحكمة، خصوصاً بما هو مرتبط بآلام الماضي، حتى لا يتحول تحقيق العدالة إلى تقسيم للمجتمع".

وكان المرصد التونسي لاستقلال القضاء (وهو هيئة مدنية مستقلة)، أعرب عن استنكاره لمنع هيئة الحقيقة والكرامة من تسلّم أرشيف رئاسة الجمهورية، ولأسلوب التعامل مع أعضائها بما يتعارض بحسب قوله مع أحكام الدستور والقانون المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية ويتنافى مع موقع الهيئة واعتبارها كهيئة دستورية، فضلاً عما يمثله ذلك من تعدٍ صارخ على مؤسسات الدولة، مؤكداً "ضرورة الاعتماد في تطبيق مسار العدالة الانتقالية على إرادة سياسية جادة لمعالجة ماضي الانتهاكات ومحاسبة المسؤولين عنها وكشف الحقائق تحقيقاً للوحدة الوطنية والانتقال الديمقراطي".

ويأتي هذا الحديث في إطار التجاذب الذي رافق مسار العدالة الانتقالية على مدى ثلاث سنوات، وتضاعف أكثر بعد الإعلان عن تركيبة هيئة الحقيقة والكرامة التي انتُخبت من المجلس الوطني التأسيسي في العام 2013 وخصوصاً حول رئيستها، حتى أن العديد من ناشطي المجتمع المدني وأساتذة القانون وبعض الأحزاب نادوا بمراجعة القانون وتغيير تركيبة الهيئة.

ويتمحور الجدل هذه الأيام حول ثلاث مسائل، أولها حول طرق النفاذ إلى الأرشيف، وثانيها التوقيت الذي اختارته الهيئة، وأخيراً اختيار الهيئة لأرشيف رئاسة الجمهورية قبل أي مؤسسة عامة أخرى.

وفي هذا السياق، يؤكد نائب رئيس الهيئة زهير مخلوف لـ "العربي الجديد"، أن "الهيئة لا تريد استهداف أرشيف رئاسة الجمهورية في حد ذاته، كما أنه ليس لها أي تخوّفات من الإدارة الجديدة التي ستتسلم رئاسة الجمهورية"، موضحاً أن "تسلّم أرشيف رئاسة الجمهورية يأتي في إطار أحد المهمات الأساسية للهيئة وهو حفظ الذاكرة".

وعدم تسلّم الهيئة للأرشيف "يعود إلى غياب التنسيق بين ديوان المرزوقي وديوان السبسي"، بحسب مخلوف، الذي يؤكد أن "الهيئة لا تتحمل هذه المسؤولية، باعتبارها احترمت المواعيد والإجراءات وتعاملت مع مؤسسة رئاسة الجمهورية في إطار مبدأ تواصل الدولة، في ظل التداول السلمي على الحكم ومن دون النظر إلى الجهة السياسية التي تمثلها".

يُشار إلى أن خلافاً كبيراً أثير منذ أشهر بين بن سدرين والسبسي، وصل إلى حدّ التلاسن عن بُعد حول تركيبة الهيئة ورئيستها ومهامها، قال البعض إنه سبب توجّه بن سدرين سريعاً إلى القصر الرئاسي قبل أن يدخله الرئيس الجديد، في حين قالت أطراف أخرى إن بن سدرين تريد إخفاء ملفات بعض المعارضين الحاليين الذين سبق لهم التعامل مع الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي.

وبالعودة إلى طبيعة الجدل القانوني حول النفاذ إلى الأرشيف، رجّح بعض القانونيين أحقية هيئة الحقيقة والكرامة في النفاذ له حسب القانون الأساسي المتعلّق بالعدالة الانتقالية والمنظم لها، إلا أن شقاً آخر لم يجادل حول هذه الأحقية، بل تساءل عن طرق النفاذ إلى الأرشيف.

ويؤكد أستاذ القانون العام والخبير في العدالة الانتقالية وحيد الفرشيشي، في حديث لـ "العربي الجديد"، "حق الهيئة النفاذ لكلّ الأرشيف العام والخاص، وبالتالي لا يمكن أن تُجابه الهيئة بالمنع أو الرفض"، لكنه يشير إلى أن السؤال المطروح هو "هل توجد نصوص أو فصول قانونية تحدد طرق النفاذ لمجمل الأرشيفات".

ويوضح أن "القانون الأساسي عدد 53 لعام 2013 المتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها، لم ينصّ عن كيفية النفاذ إلى الأرشيف ولا عن طرقه أو آلياته، وبالتالي نجد أنفسنا أمام فراغ قانوني لأن الجانب الإجرائي حول هذه المسألة غائب تماماً، وهي إشكالية يجب تداركها".

كما يلفت الفرشيشي إلى أن هيئة الحقيقة والكرامة "لم تستحدث حتى الآن اللجان التي نصّت عليها في نظامها الداخلي منذ شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، وهي لجان البحث والتقصي، ولجنة حفظ الذاكرة الوطنية، ولجنة الفحص الوظيفي ولجنة التحكيم والمصالحة"، مشيراً إلى أن "هذه "اللجان هي التي ستتعامل مع مختلف الوثائق والأرشيفات، وبالتالي كيف ستوزّع الهيئة الأرشيف على لجان لم تُستحدث بعد؟ وكيف سيكون التصرف فيها باعتبار أن هذه العملية تستوجب اتباع منهج دقيق من الناحية العلمية والمنهجية فليس كل وثيقة تُصنّف على أنها أرشيف".

وبحسب الفرشيشي، فمن المهم "التأكيد على أنه عندما يمنح القانون لأي مؤسسة عامة حقاً أو صلاحية ما، فيجب أن نتصرف في هذه الصلاحيات بالاستناد إلى مبادئ جوهرية من القانون العام، أولها حسن النية، وثانيها عدم التعسف في استعمال الصلاحية أو الحقّ، وإذا ترجمنا ذلك على أرض الواقع نجد أن هيئة الحقيقة والكرامة لم تحتكم إلى هذين المبدأين".

ويبدو أن على القضاء الفصل في هذه الخلافات بشكل نهائي حتى تتوضّح الصورة للجميع وينتهي الجدل حول هذه الهيئة وطرق وصولها إلى الأرشيف الوطني الموجود في الرئاسة أو الداخلية أو غيرها من المؤسسات العامة، خصوصاً بعد بداية عمل الهيئة في مسار يثير جدلاً كبيراً قانونياً وإجرائياً وتاريخياً أيضاً.