تونس: أثرياء في ثياب بالية

24 ديسمبر 2016
(في شوارع سيدي بوزيد، الصورة: فرانس برس)
+ الخط -

عادة ما ترتبط صور المتسوّلين في أذهاننا بكبار السن والعجزة الذين خانتهم الظروف، وألقت بهم قسوة الحياة على الأرصفة يستجدون المارة، ويبيعون الأدعية على أعتاب المساجد بالدنانير، يلتقطون الفُتات في الأسواق وفي كل الأماكن الأخرى التي يظنّون أنها مدرّة للمال، ولكن الصُورة بدأت تتلاشى الآن بعد أن أصبحنا نرى شبابًا في مقتبل العمر يتسوّلون بسرد قصص المعاناة، واحتراف استعطاف الناس واستمالة جيوبهم، حيث صار التسوّل مهنتهم.

في تحقيق أنجزته إحدى القنوات التونسية؛ توصّل إلى أن المتسوّل في تونس يجني ما يفوق ثلاثة دولارات في الساعة الواحدة، وهذا الرقم يتضاعف في الأماكن الراقية.

دخلٌ مغرٍ دفع ببعض الشباب المهمّش، إلى احتراف التسوّل والانخراط في جماعات منظمة تقتسم العاصمة إلى مناطق سيطرة في ما بينها. فلا يمكن أن يتسوّل أحد من دون أن يتّفق مع من يتحكّمون في "لوبيات التسوّل" في تلك المنطقة، وإلا فإنه سيكون عرضة للتعنيف وستفتك منه كل الأموال التي جمعها كما أظهر التقرير المصوّر الذي بثته القناة.

موقع "جيل"، انطلق في رحلة في العاصمة التونسية لمعاينة الظاهرة، وهناك لاحظنا أنه ما إن تركب المترو، حتى يعترضك شباب في العقد الثالث غالبًا، منهم من يدّعي الإعاقة، ومنهم من يقدّم أوراقًا بها أدعية يحاول فرضها على الراكبين، مرددًا معها جملًا دينية من قبيل "ما كُتب من الله"، كثيرون يقدّمون لهم المال وآخرون ممن يكتشفون زيفه يُعرضون عن إعطاء أي شيء.

السلطات من جانبها، لا يُمكنها السيطرة على الوضع، فأعوان المترو لا يطلبون منهم تذكرة الركوب، وهم يتنقّلون كامل اليوم بين العربات.

كثيرون اكتشفوا حقيقة هؤلاء المتسوّلين، حيث يروي أحمد كحلاني، أن أحد هؤلاء يتظاهرون بالإعاقة، نشبت ذات يوم بينه وبين أحد الركاب مناوشات كلامية، فتحوّل على الفور إلى شخص عادي وانخرط في اشتباك بالأيدي معه.

المتسوّلون المزيّفون معروفون في المدينة؛ فالوجوه ذاتها تتكرّر في الأماكن نفسها، ما يؤكد صحّة سيطرتها على تلك الأماكن، فمثلا تجد أن لكل متسوّل في المترو خطَا خاصًا به، حتى أنه يستحوذ على العربة نفسها دائمًا.

كما أن لكل متسوّل شارع لا يبرحه، أو عتبة جامع لا يغيرها، اقترب "جيل" من بعض الشباب لمعرفة رأيهم حول الظاهرة، حيث تقول أنس (21 سنة)، إنها منذ سنتين في محطّة القطارات اعترضها شاب في العشرينات من العمر، يسألها أن تعطيه ثمانمائة مليم لاقتناء تذكرة سفر إلى إحدى المناطق الداخلية، ساردًا لها قصة من المعاناة لم تتماسك.

تضيف أنس، أنها قدّمت له أكثر مما طلب بقليل، ولكنه لما رأى النقود في محفظتها تسمّر طالبا منها المزيد.

محدّثتنا تستطرد، أن من حسن حظها أن رجلًا أتى راكضًا نحوها من بعيد ليبعد الشاب، صارخًا في وجهها أخف نقودك إنه محتال وكاذب.

هذه الطريقة في التسوّل، هي إحدى أساليب المتسوّلين الشباب في تونس، تنتشر بكثرة في المحطات الكبرى بالعاصمة حيث يتم استهداف أشخاص معيّنين من المسافرين، خاصة الفتيات اللاتي تفضلن إعطاء قليل من المال تجنبًا للإلحاح المتواصل، وهربًا من الملاحقات، ففاتن الشريف تروي أنه في إحدى المرات، في محطة للمترو، استجداها أحد الشباب وكان بلباس عادي ويبدو في صحّة جيّدة، وما إن قالت له "أرى أنك أفضل حالًا مني"، حتى انهال عليها بالشتائم.

خلال جولة بالتاكسي وسط المدينة، حدّثنا السائق عبد الجليل أنه في إحدى المرّات قام بتوصيل ثلاث شابات في العقد الثالث من العمر، عرفن بالتسوّل في منطقة بمحافظة أريانة ببطاقات أمراض مزمنة وأحيانًا برضيع إحداهن.

ويردف السائق أنهن طلبن منه التوقّف عند إحدى محلّات الوجبات الخفيفة في منطقة غير مكشوفة، ليعُدن بعد برهة يحملن كميات كبيرة من المأكولات من مختلف الأنواع، وكانت إحداهن تحمل هاتفًا ذكيًا باهظ الثمن. ويواصل المتحدث أنه أوصلهن إلى منزل محترم جدًا بمنطقة بئر القصعة في ضواحي العاصمة بما يعادل عشرة دولارات تقريبًا.

شهادة أخرى لعائشة بن يوسف، تقول فيها إنها ذات مرّة أرادت أن تراقب شابًا يمدّ يده للمارة قرب باب البحر في المدينة العتيقة بتونس العاصمة، ورغم أن مظهره لم يكن يوحي أبدًا أنه في حاجة إلى المال ورغم ذلك يجود عليه المارة بالنقود.

عائشة تقول إنه بعد لحظات توجّه إلى إحدى الأزقّة الخلفية فتبعته من بعيد، لتتيقن فعلًا أنه أفرغ ما في جيوبه لرجل آخر بعيدًا عن أعين المارة.

هذه الشهادة، دليل آخر على أن هؤلاء ليسوا سوى محتالين وأن التسوّل صار فعلًا مهنة لفئة من الشباب تنصّلت من كل شيء مقابل المال.

فالناس الذين يقدّمون غير المال كالطعام واللباس مثلًا لا يقبله هؤلاء، فلا تتصوّر مثلًا أن تصادف متسوّلًا حافي القدمين في الشارع لا يمتلك ثمن حذاء، لأنه يجب عليك أن تفكر أنه يجمع مالًا يفوق راتب الموظفين.

الوقائع التي تدور حول المتسوّلين الشباب غريبة فعلًا، فبعضهم يحاول أخذ مالك عُنوة بإجبارك على ذلك دون أي وجه حقّ، خاصة في وسائل النقل، حيث لا يمكنك أن تفلت منهم، يحدث الشيء نفسه في المقاهي المحاذية للشوارع، حيث يتم استخدام أطفال لا يتجاوزون خمس عشرة سنة لبيع الأزهار البلاستيكية للعشاق.

وهي أزهار بلا قيمة تذكر، يتم فرضها عبر أدعية مسترسلة وحكايات درامية، وفي صورة امتناعك عن الدفع سيتحوّل ذلك الدعاء لك إلى دعاء عليك، وستقع في موقف محرج أمام صديقتك.

احتراف التسوّل ظاهرة يتخبط فيها عدد من الشباب التونسي ولم يولِ أحد اهتمامًا به، وإنما تركوه ليتحوّل إلى ثقب أسود في الشارع يلتهم الغرباء والضعفاء.

المساهمون