توزيعُ تكاليف الرد

09 يناير 2020
+ الخط -
باتت كل الاحتمالات واردة بعد مقتل قائد 'فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، في غارة جوية أميركيةٍ قرب مطار بغداد. وإذا كان مستبعدا أن تنجرَّ المنطقةُ إلى مواجهة شاملة، بالنظر إلى تداعياتها على جميع الأطراف، فمؤكد أن تعديلا ما سيطرأ على قواعد الاشتباك بين الولايات المتحدة وإيران، سيما بعد الهجوم الذي نفذه الحرس الثوري الإيراني، فجر أول البارحة، على قاعدتين عسكريتين أميركيتين في العراق. 
لم تكن الغارة التي قُتل فيها سليماني مجرّد رد فعل على أحداث السفارة الأميركية في بغداد، بقدر ما كانت استدراجا مدروسا لإيران، لاختبار مدى قدرتها على مواجهة الولايات المتحدة بشكل مباشر، بدل الاعتماد بشكل أساسي على وكلائها في العراق ولبنان واليمن.
نجح الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في إرباكِ حسابات النظام الإيراني المرتبطة بإدارة شبكة نفوذه السياسي والمذهبي والطائفي في المنطقة، فهذا النظام، وإن كان يُدرك أنه مطالب بالثأر لمقتل أحد كبار قادته، إلا أنه يدركُ، أيضا، أن المواجهة المباشرة مع واشنطن ستكون لها تكاليف تتجاوز نفوذه الإقليمي نحو الداخل الذي يرزح تحت وطأة عقوباتٍ اقتصاديةٍ، كانت لها تبعات اجتماعية، عكستها الاحتجاجات التي شهدتها إيران قبل فترة.
صحيحٌ أن مقتل سليماني أصاب الوجدان السياسي الإيراني في مقتلٍ، لكن هذا النظام يبقى معنيا، أولا وأخيرا، بالحفاظِ على مكاسبه التي تمتدّ من العراق نحو سورية ولبنان واليمن، والمساومة بها في التقاطبات ذات الصلة بتوزيع النفوذ والقوة في المنطقة. لذلك تبحث إيران عن موارد غير مكلفة في هذا الصدد، تُتيح لها، من ناحية، الثأر لكرامتها الوطنية، ومن ناحية أخرى الحفاظ على ما راكمته من مكاسب في الإقليم. وقد كان دالّا في الإعلام التابع لإيران في المنطقة توازي صورة سليماني، باعتباره قائدا وطنيا إيرانيا، مع صورته أحد رموز ''محور المقاومة''، بمعنى أن الثأر لمقتله غير مقيّد بالجغرافيا الإيرانية. وهو ما عكسته ردودُ الفعل التي صدرت عن حلفاء إيران، وخصوصا حزب الله اللبناني، والمليشيات الشيعية العراقية، وجماعة الحوثي في اليمن. ولعل رفعَ هؤلاء سقفَ الرد على مقتل سليماني إلى إنهاء الوجود العسكري الأميركي في المنطقة يصبّ في سعي طهران إلى توزيع تكاليف هذا الرد بشكل لا يُهدّد مصالحها على المدى البعيد. ولذلك يبدو استهداف قاعدتين أميركيتين في العراق كأنه ضمن هذه الاستراتيجية الإيرانية القاضية بتوزيع تكاليف الرد على مقتل سليماني على امتداد الإقليم.
أكثر من ذلك، ستكون لاغتيال سليماني تداعيات عميقة على مستقبل الحراك الشعبي في العراق ولبنان. وقد بدا ذلك في خطاب الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، بعد واقعة الاغتيال، ما ينبئ بعودة حزب الله إلى الإمساك بجزء من أوراق المعادلة السياسية اللبنانية، بعد أن أربك الحراكُ الشعبيُّ، فترة، حساباته الداخلية والإقليمية. كما بدا ذلك، أيضا، في قرار البرلمان العراقي إنهاء الوجود العسكري الأجنبي في البلاد، وهو ما سيمكّن طهران من استخلاص عوائد لا حصر لها من مقتل سليماني على الساحة العراقية التي تعرف منذ 2003 هيمنة سياسية شديدة للتنظيمات التابعة لها.
كان الحراكُ الشعبي في هذين البلدين يوشك على إسقاط منظومة المحاصصة الطائفية، والحدِّ من التدخل الإيراني في شؤونهما الداخلية، بيد أن اغتيال سليماني خلط الأوراق، وفتح أمام طهران دروبـا لتصريف جزءٍ من تداعيات هذا الاغتيال على الساحتين، العراقية واللبنانية.
بموازاة ذلك، تعمل إيران على إدراج تخفيض التزاماتها النووية ضمن ردّها على مقتل سليماني، خصوصا في ظل تناغم الموقفين، الأوروبي والأميركي، مع ما يعنيه ذلك من أن الملف النووي الإيراني قد يعود إلى نقطة الصفر في أي لحظة.
تدرك إيران أن تبعات المواجهة الشاملة مع الولايات المتحدة ستكون وخيمةً بالنسبة لها، لذلك تجتهد في إيجاد ردٍّ بتكاليف محدودة على مقتل سليماني، بحيث يحفظ هيبتها قوة إقليمية، ويُتيح لها، في الوقت نفسه، الاستفادة من خلط الأوراق الذي تشهده المنطقة في أفق تحصين نفوذها.