توزيعك فين يا مصطفى؟

08 يونيو 2015

المجند أبو عوف

+ الخط -
في يوم 3 يونيو الماضي، استُشهد المجند مصطفى أبو عوف، في كمين أبو طويلة بالشيخ زويد، بعد قنصه بطلق ناري في الرأس من مسافة بعيدة. الشهيد مصطفى ابن قرية فيشا سليم مركز طنطا بمحافظة الغربية، حاصل على بكالوريوس زراعة من جامعة طنطا، وأتم 24 عاماً في 1 مايو الماضي، بعد استشهاده قرأت نعياً له كتبه صديقه الكاتب الشاب يوسف أبو عالية، فطلبت منه أن يكتب لكم عن الشهيد، فكتب هذه السطور في محبة الشهيد مصطفى أبو عوف، وزملائه من ضحايا الإرهاب والتطرف والفشل السياسي والأمني: 
"ذلك الهادئ دائم الابتسام، كلما قابلته منفردا، سألته بتهكم: "إنت مين؟ أنا ماعرفتكش من غيرهم". أسامة وأحمد وعبدالفتاح وعلي ابن خاله، لا ألتقيه إلا في رفقتهم، جالسين في صيدلية علي، أو على عتبة محل أسامة، أو أمام مسجد "الغفران"، يتسامرون أو يشاهدون مباراة أو حتى يلعبون الكرة، في كل مرة لعبت ضده كنت أتساءل "هو إزاي مصطفى بيبقى أحيانا حرّيف أوي كده؟"، مصطفى لم ينل أبداً مجداً يليق بذروة مهارته في الكرة، لأنه ككثيرين لم يكن يصل إليها معظم الوقت!
الحياة اختيارات، لكن الاختيارات سُلبت من مصطفى حين وجد نفسه فجأة في طابور طويل، وإجراءات سرمدية أمام مكتب تجنيد طنطا، عفوا، سنضغط [pause] لكل أحلامك، وستصبح أحلامك الآن محدودة ومختلفة؛ أن يُقبل ملفك اليوم دون "افتكاسة" جديدة بمستند ناقص أو ختم غير واضح، أن تُضم إلى سلاح أقل قسوة، وأن تجنّد كعسكري (لعام واحد) بدلا من أن تُسجّل كضابط احتياط (لثلاثة أعوام)، تحقق حلمه جزئيا، "مصطفى عسكري"، سينهي خدمته في عام واحد ليعود إلى أسرته وأنس رفقائه الذين لم يعتد مفارقتهم، ويستكمل مشواره الخاص، لكن الحياة مليئة بالعبث، وعبث التوزيع قد يضعك كعسكري أمام سجن وهمي يبتكره لواء كبير في مكتبه، وقد يضعك في مكان أكثر خطورة.
"وتوزيعك فين يا مصطفى؟".. "مشاة في الشيخ زويد"، تقال مرة بتهكم، ومرة بمرارة، المهم أن التعامل معها دائما كان باستسلام، كقدر لا يُرد، ثمة خطر هناك، وثمة مسؤول ما قرر مواجهة ذاك الخطر بعدد من البشر، "مصطفى علي عبدالمجيد أبوعوف" سيكون اسما بين آلاف الأسماء الرباعية، وسيُرسَل بجرة قلم مصحوبا بدعوات أسرته، وتدريب محدود وتأمين قاصر، بعض الجيوش النظامية تقدّر قيمة أفرادها وتوفر أقصى قدر ممكن من ضمانات حمايتهم من القتل والاختطاف، وجيوش أخرى لا تثمن أرواح جنودها إلا حين تحملهم إلى ذويهم في أكفان، وقتئذ فقط ستسير جنازة عسكرية رسمية مهيبة بها الآلاف ربما، عسكريين ومدنيين، وكل هذه الآلاف لن يتواجد منها فرد، حين تخترق رصاصة أخرى جسدَ الضحيةِ القادمة، لكنها ستتواجد في جنازات قادمة.
تعامَل مصطفى دائما مع محل خدمته بهذا المزيج المركب من السخرية والاستسلام، كلما سأله أحدهم عن الوضع وخطورته قال "سيبها على الله"، وحين اتصلوا به بعد خبر تفجير الكتيبة 101 [يناير 2015] ضحك وقال "أشوفكم في الأجازة"، وعلى (فيسبوك) كان يكتب من محل خدمته متهكما "أنا في أهدأ مكان في العالم"، وحين يشتد الصراع المسلح يكتب بمرح "الأكشن هنا عالي أوي"، في النهاية لم تعترف الرصاصة اللعينة بكل هذا المرح. بحثتُ عن صور أنشرها لمصطفى، وجدت صورا مهيبة يحمل فيها سلاحا متطورا وزيّا عسكريا كاملا، ليبدو في عدسة قاتلِه وحشا كاسرا، مصطفى الذي أعرفه كان دائما وأبدا أبسط من تلك الصورة (الميري) الغليظة، وفي النهاية كانت حياته رهن ضغطة زناد، كما كان مصيره من قبل رهن جرة قلم.
"مصر لن تركع للإرهاب" يقولها مذيع تلفزيوني في استوديو مكيف، و"ياريتني كنت أنا" يقولها مسؤول حوله حراسات مشددة، وفي النهاية الحرب ضد الإرهاب سيخوضها مصطفى وأصدقاؤه وحدهم، وبدمائهم ستتشحم عجلة القمع والكراهية، وسيخرج مذيع تلفزيوني غاضبا لمصطفى، جاعلا من مقتلِه مبررا مناسبا لإرسال المزيد من أقرانه بنفس الطريقة إلى نفس المصير، دون إثارة أي تساؤل عن جدوى المسار السياسي أو كفاءة الحرب المزعومة ضد الإرهاب أو ضمانات تأمين أرواح المجندين، أو التحقيق في التجاوزات الهوجاء التي توسع دائرة التعاطف مع المتطرفين، والتي لم يكن ليرضى عنها مصطفى الذي أعرفه عادلا حقّانيا ولو على نفسه.
في النهاية رحل مصطفى، الهادئ الطيب الذي لم يعرفه أحد إلا أحبه، وبقيت كلماته في آخر إجازة عالقة في الأذهان، "أنا حاسس إني مش راجع المرة دي"، لتتردد في أسماعنا كلما جالسْنَا صديقا آخر يحزم حقيبته استعدادا للعودة إلى خدمته العسكرية بعد انتهاء إجازته.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.