توافق عون ـ جعجع: تشديد على "المناصفة" يكرّس "المثالثة"؟

23 يناير 2016
الاتفاق المسيحي دفع القيادات لإعادة حساباتها (ألدو أيوب)
+ الخط -
لم تتضحْ بعد التداعيات النهائية للاتفاق الذي تمّ بين الزعيمَين المسيحيَّين، رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" النائب ميشال عون، ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع. ظهرت الآثار الأولى للاتفاق، بتأكيد معظم القيادات اللبنانية على التريّث وكسب المزيد من الوقت لتحديد مواقفها ودراسة هذا التطوّر الذي لم يتوقعه أحد بين قطبَين تسبّبت حربهما بالدماء والضحايا. لكن ما هو مؤكد، أنّ اتفاق عون ــ جعجع خلط أوراقاً كثيرة ودفع هذه القيادات إلى إعادة صياغة حساباتها السياسية على مستوى تحالفاتها.

ويكمن توافق الزعيمَين المسيحيَّين في "أوليّة التوافق المسيحي ومدرجاته في استرجاع دور المسيحيين، وحقوقهم في الدولة اللبنانية كمكوّن أساسي في هذه الجمهورية". تحت هذا العنوان، يأتي ملف الشغور الرئاسي (المستمر منذ مايو/أيار 2014) والتمثيل المسيحي في البرلمان وفي المؤسسات الرسمية. كل هذا، يمكن جمعه في عبارة "المناصفة" التي ينصّ عليها الدستور اللبناني ليساوي بين المسيحيين والمسلمين على مستوى التمثيل الرسمي، والحقوق، وإدارة مؤسسات الدولة. ويأتي سعي عون وجعجع إلى إعادة تفعيل "المناصفة" في ظلّ ترّقب سياسي دائم من فكرة تحويل هذه "المناصفة" إلى "مثالثة"، أي الانتقال إلى توزيع ثلاثي الأضلاع للمناصب، بين المسيحيين والسنة والشيعة، بدل أن يكون بين المسيحيين والمسلمين بشكل عام.

لم يعد عون يبحث عن تعديل اتفاق الطائف الذي لطالما اعتبره ينتقص من حقوق المسيحيين (إذ ألغى العديد من صلاحيات رئيس الجمهورية ونقلها إلى مجلس الوزراء ورئيس الحكومة). وقّعت قيادات الحرب الأهلية اللبنانية هذا الاتفاق في الطائف السعودية (1989)، وعادت إلى لبنان للإطاحة بالحكومة العسكرية التي ترأسها عون يوم كان قائداً للجيش، بتعيين من رئيس الجمهورية المنتهية ولايته وقتها أمين الجميّل، مستعينة بالجيش السوري.

انضم عون في هذا الاتفاق إلى جعجع في التمسّك بالدستور والمطالبة بتطبيقه تكريساً للعيش المشترك والمناصفة بين طوائف المجتمع ومكوّناته. فالحالة المسيحية على مستوى التمثيل الرسمي رثّة، على حدّ وصف القيادات المسيحية، في إشارة إلى التداعيات المستمرة لفترة الوصاية السورية على لبنان (1990 ــ 2005)، واستمرار الطوائف الأخرى في اللعب على مكتسبات تلك المرحلة والانتقاص من حقوق المسيحيين.

وفي الانتخابات النيابية، لا تستطيع الكتل المسيحية سوى إيصال 35 نائباً إلى البرلمان بالأصوات المسيحية، من أصل 64 نائباً مسيحياً (المجلس النيابي مؤلف من 128 نائباً مناصفة بين المسيحيين والمسلمين)، وفق ما تُردّد الأحزاب المسيحية. وتعتقد هذه الأحزاب، أنّ 29 نائباً مسيحيّاً فقط وصلوا إلى البرلمان من دون أن يكونوا بالضرورة يعبّرون عن خيارات القوى المسيحية أو الأغلبية المسيحية لكن بدعم من كتل وأطراف أخرى تمتلك أغلبية الاقتراع في الدوائر، مثل قضاء عكار ــ شمالي لبنان، والشوف وبعبدا ــ جبل لبنان، وزحلة ــ البقاع شرقي لبنان وغيرها).

اقرأ أيضاً: جعجع ــ عون... حسابات الطرفين من الترشيح والاتفاق السياسي

من هنا، يُحرج إجماع عون وجعجع على "المناصفة" والعمل الجدي على تكريسها، القيادات الطائفية الأخرى التي باتت تشعر فعلاً بالخطر الانتخابي والسياسي، على اعتبار أنّ الأبواب باتت مشرّعة لكتلة مسيحية واحدة وموحّدة أصبحت قادرة على الخرق السياسي والانتخابي في المناطق المختلطة حيث التمثيل المسيحي "مُصَادر".

ومن تداعيات هذا الاتفاق، أنّ عون وجعجع أخليا موقعهما في فريقَي 8 آذار و14 آذار، وباتا يشكّلان مكوّناً ثالثاً واضحاً في خياراته الطائفية. الأمر الذي من شأنه تحويل قطبَي الصراع طوال العقد الماضي (منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري في فبراير/شباط 2005) إلى فريقَين طائفيَّين؛ الأوّل شيعي يديره حزب الله، والثاني سنّي يقوده "تيار المستقبل" مع بقايا من تلوينات مذهبية تطعّم الفريقَين طائفياً، لكن من دون أثر سياسي وتمثيلي وشعبي جدّي.

كل ذلك يعني أنّ الزعيمَين المسيحيَّين أفرزا معسكراً ثالثاً صافياً على المستوى الطائفي، وحوّلا أيضاً التحالفَين السابقَين إلى معسكرَين شبه صافيَين مذهبياً، حيث لم يبق لحزب الله ورئيس مجلس النواب نبيه بري سوى رئيس تيار "المردة"، سليمان فرنجية وبعض الشخصيات المسيحية الأخرى. كحلفاء مسيحيين. في المقابل، أفرغ جعجع المكوّن المسيحي وحصر تحالفات "المستقبل" المسيحية بشخصيات مستقلة تدور أساساً في فلك الأخير، خصوصاً أنّ حزب "الكتائب اللبنانية" لا يزال متسمكاً بترشيح زعيمه السابق، رئيس الجمهورية الأسبق أمين الجميّل، بخطوة تميّزه سياسياً وانتخابياً عن "المستقبل"، عرّاب ترشيح سليمان فرنجية.

بذلك، تفتح تداعيات توافق عون وجعجع وسعيهما لتكريس "المناصفة"، الأبواب أمام "مثالثة" سياسية وطائفية وانتخابية، المتهم حزب الله أساساً بالعمل لتكريسها في لبنان. فبالنسبة لعدد كبير من المتابعين، فإنّ سلاح حزب الله ودوره الإقليمي، والتغيير الديمغرافي على المستوى الوطني، وشكل الحياة السياسية في البلد، أمور تدفع الحزب إلى التفكير في تعديل النظام اللبناني لتكريس قوّته السياسية، والشعبية، والعسكرية، وصرفها على مستوى الدستور. ويكون تفاهم القطبَين المسيحيَّين قد مهّد الطريق فعلياً أمام المطالبة بمثالثة دستورية تكريساً لمثالثة سياسية فعليّة يعيش لبنان فيها منذ عقد.

اقرأ أيضاً "السنية السياسيّة" في أضعف مراحلها اللبنانية:أزمة تيار المستقبل نموذجاً