تواضعوا يا مسلمين!

19 يونيو 2014

محاضرة عن أخلاقيات الحياة لعاملات في مصنع ياباني (1935/getty)

+ الخط -
"ليسوا مسلمين، ولكن، عندهم أخلاق الإسلام". بهذا المعنى، عبرت أغلبية ردود فعل العرب المسلمين في "تويتر" وغيره، على مشهد الجمهور الياباني، وهو ينظف مدرجات المونديال قبل أيام.
كثيرون في كل العالم تناقلوا صور لثلة من الجمهور الياباني، وهي تخطف الأضواء بعد انتهاء مبارة فريق بلدهم مع فريق ساحل العاج، عندما حولت الهزيمة الرياضية إلى انتصار أخلاقي، وكتمت غيظها من الخسارة، وتجاوزت شعورها بالخيبة، وانطلق أفرادها، وهم يحملون أكياساً بلاستيكية، ليجمعوا فيها مخلفاتهم من على المدرجات، بدلاً من تكسيرها، كما يفعل كثيرون غيرهم في تلك الحالات، أو على الأقل تركها كما هي.
هذا الفعل الصغير الكبير، والذي قال بعضهم إنه قد يكون غير عفوي، وإن اليابانيين كانوا قد رتبوا له مسبقاً بشكل دعائي، أثار إعجاب العالم كله فعلاً، لكن العرب وحدهم، ربما من عبروا عنه بما يشبه الاعتداد الذاتي بالدين الإسلامي، بترديد عبارة الإمام محمد عبده، التي قالها حكماً أخلاقياً وحضارياً، بعد عودته من باريس، في أواخر القرن التاسع عشر، حيث عبر عن انبهاره بقيم الحضارة الغربية يومها، فقال قولته الشهيرة:"وجدت إسلاماً بلا مسلمين".
لا أناقش، هنا، مدى دقة هذه العبارة، في سياق حادثة الجماهير اليابانية، كحكم أخلاقي بالتأكيد، ولكني أناقشها من منظور فهمنا ديننا أولاً، ولحضارتنا العربية الإسلامية ثانياً، ولنظرتنا للآخر، من هذا المنظور أساساً. واضح تماماً أننا ننظر للآخر، المختلف عنا في الدين تحديداً، بأنه بلا أخلاق تحديداً أيضاً. يتضح هذا في دهشة واستغراب نواجه بهما كل فعل أخلاقي راقٍ نكتشفه فيه، أو يرشح أمامنا من تصرفاته معنا. فكلما واجهنا مثل هذا الفعل، سارعنا إلى تلك العبارة الخالدة، لتنقذ ماء وجهنا الحضاري، ومأزقنا الأخلاقي أمام تعاليم ديننا؛ "إنه إسلام بلا مسلمين"!، وكأننا نؤكد بذلك على أن الآخر الذي لا يدين بدين الإسلام هو حتماً شخص بلا قيم ولا أخلاق ولا أعراف ولا عادات ولا تقاليد ولا حضارة على الإطلاق. هل يقرّنا الإسلام نفسه على هذا؟ هل يقول الإسلام إن كل ما هو خارجه هو بالضرورة خارج عن منظومة القيم الأخلاقية فعلاً؟ هل ورد ما يشير إلى ذلك في قرآن كريم أو سنة نبوية.
ما أعرفه أن رسولنا الكريم، صلى الله عليه وسلم، قال:"النَّاسُ مَعَادِنُ كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلامِ إِذَا فَقِهُوا"، وهذا يدلّ على أن القيم الأخلاقية التي يحملها المرء لا علاقة مباشرة لها بالدين، إنما بمعدن المرء نفسه، بغض النظر عن الدين الذي يتعبد به خالقه، بل وبغض النظر عن إيمانه، أو عدم إيمانه، بدين. فالتوجيه النبوي، هنا، يؤكد على أن القيم الأخلاقية غير مقتصرة على المسلمين، ولم يأت بها الإسلام، بل إنه عززها وشجع الملتزمين بها عبر التفقه فقط.
طبعاً، نحن كمسلمين، وبضرورة إيماننا بالإسلام، نؤمن "أن الدين عند الله الإسلام"، وهذا مفروغ منه، دينياً وإيمانياً وعقائدياً لأي مسلم، لكننا نتحدث، هنا، عن القيم الأخلاقية والحضارية المطلقة، وهي قيم موجودة قبل الإسلام وبعده وبمحاذاته وفي سياقه وخارج سياقه أيضاً. أما الحديث عنها، وكأنها شذوذ يستحق الذكر، فهو من دلائل عدم فهمنا ديننا أولاً، وعدم فهمنا معنى القيم ثانياً، والأخطر أنه يدل على عدم استعدادنا تقبل الآخر، إلا على مضض، ووفق شروطنا نحن فقط، وكأننا نقول للآخرين، ممن يشتركون معنا في الكون البشري، عيشوا معنا ولكن "بكيفنا". وهذا من أسباب قطيعتنا المعرفية والإنسانية مع هذا الآخر، ومن أسباب قطيعتنا مع بعضنا، بل ومع أنفسنا أحياناً. فلنتواضعْ قليلاً، نحن لا نعيش وحدنا على هذا الكوكب.
 
دلالات
CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.