توائم الدراجات الهوائية

23 نوفمبر 2014
ركوب الدراجات يأخذ شكل ظاهرة سائدة (Getty)
+ الخط -
أول ما لفت نظري، لدى زيارتي الأولى إلى هولندا، تلك الأسراب من راكبي الدراجات الهوائية، تنساب في الشوارع باستقامة حذرة وماهرة، أو تنعطف بلا احتراس، مثل أسراب الطير في الأفق القريب، مثنى مثنى، وبحركات تتشابك فيها الأيدي أحياناً، فتسبب جفولاً لغريب مثلي؛ خاصة أن العنصر الأنثوي الجريء، يقيادته الرشيقة، وأزيائه الصيفية الصارخة الأكثر خفة ورشاقة؛ كان يضفي على الصورة نوعاً من التعقيد، ويشتت الانتباه، بين تتبع جماله الأخاذ، والخوف من ارتكابه حادثة سير وسط السرعة والتهور، وتبادل الحديث بين الثنائيات، سواء كانوا يسيرون جنباً إلى جنب، أو يركبون دراجة واحدة. وهذا كله غريب على المجتمع البريطاني، الذي كنا أتينا منه للتو.

جانب آخر من المفاجأة تمثل في كيفية قيادة الهولنديين الدراجات، وفي أنواعها وأشكالها. كان أول حديث تربوي لي مع ابني- لدى وصولنا- من وحي مشهد الخروج على الدراجات. حتى تلك التي تقودها نساء جميلات، من الصبايا، أو السيدات الهرمات أو حتى العجائز؛ إذ خطر لي أن أحدث ابني عن آلية نشوء العادات في أي مجتمع، والفارق بين تقبل الفعل أو رفضه، بناء على درجة قربه من العادات، أو غرابته عنها، وهذا يوصف عادة بالخارج عليها.
ذكّرتني الخُروج، على مؤخرات الدراجات، بالخروج التي كنا نضعها على ظهور الحمير في قريتي. كانت ظاهرة ركوب الحمير من العادات المألوفة، والثقافات الموروثة المكرسة. فلم يكن غريباً أن ترى رجلاً وجيهاً أو معلم مدرسة، أو حتى عروساً تركب حماراً. يومها كان سائق الدراجة غريباً على أهل قريتي، وقد يندفع الأطفال للركض خلفه، وقذفه بالحجارة. اليوم تغيرت العادة، فتغيرت النظرة للفعل المرتبط بها. وصار ركوب الحمير في قريتي مثار ضحك وسخرية. بينما صارت الدراجات- خاصة النارية- من مألوف وسائل النقل. رغم أن استخدام الخروج لم يصبح شائعاً بين الشباب. أما الصبايا، فبقين خارج الموضوع كلياً!

من جملة العادات البريطانية الصارمة، المعروفة بالرصانة الراقية، والإيتيكيت الحرفي؛ تأتي وسائل وعوامل الأمان في قمة الأولويات.. بدءاً بنظام الإنذار عن الحرائق، وحتى قوانين منع وجود الأطفال بمفردهم في البيت، أو حتى في الطريق، إلا بمرافقة شخص بالغ..، وانتهاء بتنظيم عوامل الأمان على ركوب الدراجات من خوذة الرأس، والأضواء.
وعلى العموم لم أشاهد في بلد آخر أنّ ركوب الدراجات يأخذ شكل ظاهرة سائدة، كما هو الحال في هولندا. وقد يعتبر حلاً لتعويض نقص الأوكسجين في أرض المناطق المنخفضة، لوقوعها تحت مستوى سطح البحر. وهذا ما تساعد عليه الحيوية والنشاط في الحركة اليومية للهولنديين - ذكوراً وإناثاً- المميزين بتناسق الجسد والقوام.

يصيبك عارض ضحك، وتتخيل أنه لا ينقص الهولنديين غير الزواج على الدراجات، والولادة أيضاً، فلا يقتصر الناس هنا على اعتماد الدراجات في الذهاب إلى أعمالهم ومدارسهم وجامعاتهم والنوادي الليلية والحفلات الخاصة والعامة والتسوق، بل طوروا نماذج تلائم ذوي الاحتياجات الخاصة، وأخرى تلبي الرغبات والأذواق. منها ما هو غريب، وأخص هنا بالذكر دراجة لها شكل الطلقة، أو الحذاء (هنا تنتشر صورة الحذاء/ القارب، ولابد أن لها أسطورة ما) التي يقودها الراكب، بوضعية المستلقي على ظهره. ويكون مستواه واطئاً، ومروره مفاجئاً وسريعاً. تخفف من خطره البنية التحتية، فائقة الجودة، التي تجهز للدراجات في المدن والأرياف شبكة طرق ممتازة، مزودة بالإشارات الوافية والمسارب الخاصة المعبّدة بزفت ملون بالأحمر.

ولكن أكثر ما يستحق الإعجاب من الدراجات، في هولندا، هي تلك النماذج الخاصة بالعائلة. فهذه لها حكايتها الخاصة وثقافتها الفريدة، ولعلها تكون من عوامل تصنيف الأطفال الهولنديين على قائمة الأطفال السعداء في العالم؛ حيث ينمو الطفل الهولندي على الدراجة العائلية، خلف أو أمام أحد والديه أو داخل عربة تتسع لطفلين إلى أربعة أطفال، تحتويهم في رحلة يومية واحدة على الأقل، مما يجعل وجوههم تتلاقى على لغة إشارية، تزيد في ألفتهم، وتقرّبهم من بعضهم، ومن ذويهم. على أن أغلب الأطفال ينخرط في مناشط أخرى، غير المدرسة، أهمها السباحة، فتعلُّم السباحة في هولندا مفروض على الأطفال، تحرزاً لفيضانات محتملة في أية لحظة.
دلالات
المساهمون