تهريب البشر.. من منازل الصدمة التركيّة إلى أوروبا

11 مايو 2015
لا يُحالف الجميع الحظ بالوصول إلى أوروبا (صالح باران/الأناضول)
+ الخط -

تبقَى دول أوروبا الغربية وجهة أساسية للهجرة غير الشرعية في العالم. ويحاولُ آلاف المهاجرين غير الشرعيين الوصول إليها بحثاً عن حياة أفضل، وهرباً من القمع السياسي والحروب الأهلية والمجاعات والفقر والتدخلات الخارجية. لكن هذه الرحلة غالباً ما تكون محفوفة بالمخاطر. وتُطالعنا الأنباء كل يوم تقريباً عن مقتل مئات المهاجرين بسبب غرق سفن أو قوارب قبل وصولها إلى سواحل شمال البحر المتوسط. وبحسب المركز الفرنسي للإحصاءات العلمية، فقد قُتل 29 ألفاً و917 مهاجراً خلال رحلات الهجرة إلى أوروبا خلال السنوات الـ 21 الأخيرة.

وعلى الرغم من التشديدات الأمنية والقانونية (عقوبة المساهمة في تهريب البشر تتراوح ما بين 3 و8 سنوات بالإضافة إلى غرامة مالية) التي تتخذها تركيا، يبقى هذا البلد إحدى محطات العبور الرئيسية للهجرة غير الشرعية نحو أوروبا. واستطاعت السلطات التركية اعتقال نحو مليون مهاجر غير شرعي على أراضيها بين عامي 1996 و2013، بالإضافة إلى نحو 12 ألف مُهرّب.

ويكادُ تهريب البشر يكون مهنة قائمة بحد ذاتها، لها شبكاتها ومصطلحاتها. ولا يوجد معلومات دقيقة عن تاريخها، إلا أن معظم المراقبين يؤكدون أن البدايات تعود لنهايات سبعينيات القرن الماضي وبداية الثمانينيات، بعد تمرّد حزب العمال الكردستاني في شرق تركيا وبعد حرب الخليج الثانية، ما أدى إلى موجات هجرة كبيرة عراقية وتركية. وشكل الأكراد والسريان غالبية المهاجرين، فيما فضّل بعض الأكراد البقاء بحكم تواجدهم على الحدود المشتركة بين كل من سورية وتركيا والعراق وإيران، ليكونوا أسياد التهريب حتى وقت قريب.

خطوط التهريب

يوجد خطوط عدة لنقل المهاجرين عبر تركيا. أقدمها الخط الممتد من الشرق عبر ولاية وان التركية الحدودية مع إيران. وتتولى عمليات التهريب شبكات مكوّنة بشكل أساسي من أكراد، ويُنقل المهاجرون الإيرانيون والأفغان والباكستانيون ضمن مجموعات مكونة من عشرين إلى ثلاثين شخصاً عبر الحدود سيراً على الأقدام، أو من خلال الأحصنة أو الحمل على ظهور المهرّبين، في رحلة تستمر ثلاث ساعات على الأقل.

يؤكد أحمد (اسم مستعار)، وهو أحد وسطاء عمليات التهريب، لـ"العربي الجديد"، أننا "نتصل بالشبكة في أفغانستان وباكستان عبر الشبكة الموجودة في إيران، والتي لنا تعاملات تجارية معها بعيداً عن التهريب أيضاً". ويلفت إلى أن "المرحلة الأصعب تكون في إيران، علماً أن القوى الأمنية لا تتردّد في القتل. حتى أن نقل المهاجرين في إيران يتحقق عبر مراحل عدة بسبب الخوف". يضيف أن "عائلاتنا تنتشر على طول الحدود. نحن أصحاب هذا المكان ونعرف تفاصيل الحدود أكثر مما نعرف منازلنا. دائماً ما نجد طريقاً لتهريب البشر".

في تركيا، يبيتُ المهاجرون في منازل يطلق عليها المهربون اسم "منازل الصدمة" في منطقة "باش كالة" في ولاية وان، بكلفة 40 دولاراً للشخص الواحد، ومنها إلى مدينة إسطنبول. في السابق، كان المهاجر يدفع المال لشخص ثالث يحدده المهرّب. لكن بعد ازدياد حالات السرقة سواء من قبل المهاجرين أو المهرّبين، اعتمدت آلية جديدة وهي وضع المال لدى مكتب صيرفة على أن يحصل على نسبة بعد التسليم. أمرٌ يؤكده خليل (اسم مستعار)، وهو أحد المهرّبين الذين التقتهم "العربي الجديد" في مدينة جيزرة (جزيرة بوطان) في شرق تركيا. يقول: "بطبيعة الحال، نرفض استلام الشوربة (أي أجرة التهريب) عبر حوالات مصرفية أو بريدية لأن الأمر يشكل خطراً علينا".

يتابع خليل أن "الواقف أي المهاجر، يسلّم المال ويتفق معه على كلمة سر يقولها لنا بعد إتمام العملية". يضيف: "تتراوح كلفة العبور من أفغانستان إلى إسطنبول ما بين 5000 و7000 دولار للشخص الواحد. وعادة ما ينقلون من وان إلى إسطنبول عبر شاحنات كبيرة. ويدفع المهربون نحو 30 ألف دولار مصاريف نقل، على أن يتقاسموا باقي المبلغ في ما بينهم. وتتراوح كلفة الوصول إلى أوروبا ما بين 15 ألف دولار و20 ألف دولار للشخص الواحد".

الحالة المادية

بعد اندلاع الحرب في سورية، باتت الحدود الجنوبية هي الأخرى من أهم منافذ العبور نحو تركيا، من جهة محافظة الحسكة السورية المقابلة لولايتي ماردين وشرناق التركيتين. وبسبب إغلاق المعابر المشتركة بعد سيطرة الاتحاد الديمقراطي، الجناح السياسي للعمال الكردستاني، تتولى شبكات محلية عمليات التهريب، وتتراوح كلفة نقل الشخص الواحد إلى ولاية ماردين أو شرناق، ما بين 250 و350 دولاراً، بحسب الطريقة المتبعة.

ومع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية التركية، منعت السلطات السوريين من دخول البلاد عبر المعابر الحدودية النظامية المتواجدة في ولايتي عنتاب وهاتاي المطلتين على ريف حلب وإدلب، لتنشط عملية تهريب السوريين إلى تركيا بكلفة تتراوح ما بين 20 و30 دولاراً للشخص الواحد. وفي حال فشلت العملية أو اعتقل المهرّب أو المهاجر، يتعرضون للضرب على أيدي قوات الجيش التركي، قبل الإفراج عنهم وإعادتهم إلى سورية.

تختلفُ طرق عبور المهاجرين غير الشرعيين من تركيا نحو أوروبا، بحسب الوضع المادي للمهاجر. إذا كان مقتدراً، غالباً ما يغادر عبر المطارات، سواء مطار إسطنبول أو مطار أنطاليا الدوليين، بكلفة تتراوح ما بين 10 آلاف و12 ألف دولار للشخص الواحد، من خلال استخدام جوازات سفر أوروبية مزورة.

وبحسب الخوجا، وهو مهرب تركي ـ كردي، فإن جوازات السفر هذه تصنعها مافيات في بلغاريا واليونان وباكستان والجزائر والمغرب. لكنه يلفت إلى أن هذه الطريقة باتت مكلفة جداً وصعبة، بل تكاد تكون مستحيلة في ظل التدقيق الأمني الشديد الذي بدأت السلطات التركية تمارسه في المطارات، إثر توقيع اتفاقية بين تركيا والاتحاد الأوروبي تقضي بإعفاء المواطنين الأتراك من تأشيرة دخول إلى دول الاتحاد.

في السياق، يؤكد محمد رستم، وهو شاب سوري استطاع الوصول إلى ألمانيا عبر تركيا، أن المهرّب الذي تعامل معه أدخله إلى اليونان عبر معبر إديرنة الحدودي. وللوصول، اضطر إلى الجلوس بين الأمتعة. بعدها، أنزله المهرب وأخذه إلى السوق الحرة في المعبر عبر طرق ملتوية إلى حين إتمام أوراق الحافلة والمسافرين، من ثم عاد ليجلس بين الحقائب حتى وصل اليونان. لكن هذه الطريقة كشفت لاحقاً من قبل الأمن التركي.

ملوك اللعبة

تعدّ منطقة بحر إيجة، بمدنها الأساسية كإسطنبول وإزمير وبودروم، إحدى أهم منافذ عبور المهاجرين غير الشرعيين نحو أوروبا، بسبب قربها من الجزر اليونانية. وباتت اليوم المنفذ الوحيد في ظل التشديدات الأمنية. وتتراوح كلفة نقل الشخص الواحد ما بين ألف وأربعة آلاف دولار.

لا يعرف المهاجر موعد الانطلاق، لكن يطلب منه أن يكون على أهبة الاستعداد في أي وقت. كذلك، لا يعرف اسم المهرّب الحقيقي. يؤكد الخوجا أن "الأمور تتغير بحسب الظروف السياسية. في التسعينيات، كان المهاجرون أفغاناً وعراقيين، ثم فلسطينيين، والآن هم سوريون".

ولدى سؤاله عن حجم المال الذي يحصلون عليه، يقول إن "الأمر ليس سهلاً. لست وحدي من يأخذ المال، بل كل من يشارك في العملية له حصّته. هذا عدا عن الخسارة التي سأتحمّلها وحدي في حال فشلت العملية. يعني ما آخذه من مهاجر يعوّض خسارات أخرى، فالسوق لم يعد كما كان بعدما استولى عليه المهرّبون السوريون".

من جهته، يؤكد أبو عبد الله، وهو أحد المهربين السوريين الأكراد، أنه "قبل الحرب في سورية، كنا نعتمد على المهرّبين الأتراك كثيراً. أما اليوم، فلم يعد لهم نفع، وبات السوريون ملوك اللعبة". يضيف: "نحن السوريين الآن نهرّب المهاجرين عبر البحر في تركيا. لدينا شباب ماهرون في قيادة السفن من اللاذقية وطرطوس".

تتوجه هذه السفن بعد تحميلها بالركاب ليلاً من سواحل إسطنبول أو إزمير، إما إلى اليونان حيث تفرغ حمولتها، أو تكمل طريقها إلى سواحل إيطاليا، أو تتوجه إلى السواحل الرومانية، حيث الدخول أسهل بسبب قلة التشديد الأمني. وعلى الرغم من جميع هذه المشقات والمخاطر التي قد تؤدي إلى موت المهاجر، لا تنتهي الرحلة هنا، فما أن يضع قدمه على أرض القارة الأوروبية تبدأ، مهمة أخرى هي المغادرة نحو دول أوروبا الغربية.