تثير الأنباء الآتية من العراق عن تهجير المسيحيين على يد تنظيم "داعش"، الكثير من الشجون، وتوقظ الكثير من المواجع. وعلى الرغم من التعتيم والتواطؤ، فإن المأساة لا يمكن التستر عليها.
يبعث الأمر على التأثر حين يقف المرء أمام كمية كبيرة من التفاصيل لم يكن يعرفها، أو أنها غابت عنه في زحمة مهرجان الدم الذي لا يتوقف في العراق. وأكثر الحقائق قسوة تتمثل في أنه لكثرة ما يقتل من العراقيين الابرياء في كل يوم، فإن قضية تهجير المسيحيين من ديارهم لم تأخذ الاهتمام الذي تستحقه منذ الاحتلال الأميركي لهذا البلد، بل لم يأبه بها أحد على نحو جاد حتى الآن. ولأن التهجير القسري صار سلاحاً من أسلحة النزاع الدائر، فقد تحول إلى فعل عادي يمارسه الجميع ضد الجميع، ولهذا فإن تهجير المسيحيين يبدو مسألة لا تلفت انتباه أحد. لكن قيام "داعش"، في هذه الأيام، بحملة تطهير طائفي ضد مسيحيي الموصل وجوارها، يستدعي الوقوف ضدها بحزم.
قضية التهجير في العراق بشكل عام، والمسيحيين على نحو خاص، واحدة من أخطر المسائل في هذا البلد الجريح، وذلك انطلاقاً من الارقام التي نشرتها المنظمات الدولية، والتي تفيد بأن أكثر من ستة ملايين عراقي اضطروا الى ترك منازلهم منذ الحرب على العراق سنة 2003، وتكشف الأرقام عن أن مأساة المسيحيين مضاعفة بالقياس لبقية المهجرين العراقيين، وذلك لأسباب عدة: أولاً، المسيحيون ليسوا طرفاً مباشراً في اللعبة الطائفية الدائرة هناك، أو النزاعات وتصفية الحسابات الطائفية والعشائرية، لا قبل الاحتلال ولا بعده، وقد تعايشوا مع الجميع، وبالتالي ليس هناك فاتورة يتوجب عليهم دفعها لأحد. ثانياً، المهجرون من الطوائف الأخرى يجدون على العموم ملاذاً في المناطق التي يسكنها أبناء طائفتهم، أما المسيحي اليوم، فليس أمامه غير طريقين: إما أن يقصد المنطقة الكردية حيث الأبواب مفتوحة له على مصراعيها، أو عليه أن يسلك طريق المنفى. ثالثاً، إن المسيحي بات ضحية لبعض قوى التطرف الديني مثل "داعش"، التي صارت تمارس بحق أبناء هذه الطائفة اضطهاداً يبدأ بإجبار نسائهم على ارتداء الحجاب، وترك دينهم واعتناق الإسلام، أو دفع الجزية! وقد كان مصير مَن رفض ذلك، إما القتل أو الطرد من بيته.
تُجمع الأوساط العراقية من كافة الطوائف على أن المسيحيين لم يرتكبوا جناية بحق العراق أو أحد من أهله، لكي يعاملوا على هذا النحو. ومن الواضح اليوم أن هناك ممارسات متخلفة تقف من ورائها بعض قوى التطرف الديني. إلا أن المسألة لا تقف عند هذا الحد، وهي أبعد من ذلك بكثير، ومَن يقف وراء ذلك يقوم به بوعي تام، وهو في جميع الأحوال لا يريد لهذا البلد أن يبقى مكاناً مثالياً للتعايش بين مكوناته المختلفة، وهدفه البعيد هو ضرب صيغة الشرق العربي القائم على التعدد والاختلاف، والذي يكمن غناه الفعلي في تنوعه عرقياً وطائفياً وثقافياً. كل من زار العراق قبل كارثة الاحتلال، لا بد أنه وقف على اللمسة الخاصة التي أعطاها المسيحيون للعراق، وذلك نابع من أصالتهم وتجذّرهم في تربة وهواء وماء هذه الارض منذ آشور بانيبال.
إن الهدف لا يخفى من وراء مشروع تهجير السكان الأصليين لهذه الأرض، لأنه بذلك يسهل محو ذاكرة العراق، وقتل روحه، وشطب خمسة آلاف سنة من تاريخ الحضارة الانسانية.
لا ينفرد المسيحيون عن بقية العراقيين في مواجهة هذا الحال المزري، إلا ان مأساتهم تبدو مركّبة، فالمسيحي العراقي محروم قبل كل شيء من الغطاء الطائفي الداخلي في الظرف الراهن، ولهذا فإنه تُرك خارج دائرة المحاصصة الطائفية في الحكم، التي قام على أساسها الوضع في فترة ما بعد الاحتلال. ورغم أن وزراء مسيحيين شغلوا مناصب في حكومات متعاقبة، إلا أنهم لم يكونوا محسوبين على حصة الطائفة المسيحية، بل على حصة الطرف الكردي، وهنا تكمن المفارقة الفعلية. وقد صار المكان الوحيد الآمن بالنسبة للمسيحيين منذ سنوات، هو الاقليم الكردي، بل إن المسيحيين الذين جرى تهجيرهم من هذه المناطق، خلال فترة حروب بغداد مع الاكراد، رجعوا إلى قراهم، وأعادوا تعميرها. والآن يجري تهجيرهم من جديد على يد "داعش".
إن الخطر الأكبر الذي سيترتب على التهجير اليوم، ليس فقط فرض الفرز السكاني بالدم، وزرع الاحقاد بين الطوائف والاعراق، بل نهاية العراق كصيغة، ومن وراءه الشرق ككل.
يبعث الأمر على التأثر حين يقف المرء أمام كمية كبيرة من التفاصيل لم يكن يعرفها، أو أنها غابت عنه في زحمة مهرجان الدم الذي لا يتوقف في العراق. وأكثر الحقائق قسوة تتمثل في أنه لكثرة ما يقتل من العراقيين الابرياء في كل يوم، فإن قضية تهجير المسيحيين من ديارهم لم تأخذ الاهتمام الذي تستحقه منذ الاحتلال الأميركي لهذا البلد، بل لم يأبه بها أحد على نحو جاد حتى الآن. ولأن التهجير القسري صار سلاحاً من أسلحة النزاع الدائر، فقد تحول إلى فعل عادي يمارسه الجميع ضد الجميع، ولهذا فإن تهجير المسيحيين يبدو مسألة لا تلفت انتباه أحد. لكن قيام "داعش"، في هذه الأيام، بحملة تطهير طائفي ضد مسيحيي الموصل وجوارها، يستدعي الوقوف ضدها بحزم.
قضية التهجير في العراق بشكل عام، والمسيحيين على نحو خاص، واحدة من أخطر المسائل في هذا البلد الجريح، وذلك انطلاقاً من الارقام التي نشرتها المنظمات الدولية، والتي تفيد بأن أكثر من ستة ملايين عراقي اضطروا الى ترك منازلهم منذ الحرب على العراق سنة 2003، وتكشف الأرقام عن أن مأساة المسيحيين مضاعفة بالقياس لبقية المهجرين العراقيين، وذلك لأسباب عدة: أولاً، المسيحيون ليسوا طرفاً مباشراً في اللعبة الطائفية الدائرة هناك، أو النزاعات وتصفية الحسابات الطائفية والعشائرية، لا قبل الاحتلال ولا بعده، وقد تعايشوا مع الجميع، وبالتالي ليس هناك فاتورة يتوجب عليهم دفعها لأحد. ثانياً، المهجرون من الطوائف الأخرى يجدون على العموم ملاذاً في المناطق التي يسكنها أبناء طائفتهم، أما المسيحي اليوم، فليس أمامه غير طريقين: إما أن يقصد المنطقة الكردية حيث الأبواب مفتوحة له على مصراعيها، أو عليه أن يسلك طريق المنفى. ثالثاً، إن المسيحي بات ضحية لبعض قوى التطرف الديني مثل "داعش"، التي صارت تمارس بحق أبناء هذه الطائفة اضطهاداً يبدأ بإجبار نسائهم على ارتداء الحجاب، وترك دينهم واعتناق الإسلام، أو دفع الجزية! وقد كان مصير مَن رفض ذلك، إما القتل أو الطرد من بيته.
تُجمع الأوساط العراقية من كافة الطوائف على أن المسيحيين لم يرتكبوا جناية بحق العراق أو أحد من أهله، لكي يعاملوا على هذا النحو. ومن الواضح اليوم أن هناك ممارسات متخلفة تقف من ورائها بعض قوى التطرف الديني. إلا أن المسألة لا تقف عند هذا الحد، وهي أبعد من ذلك بكثير، ومَن يقف وراء ذلك يقوم به بوعي تام، وهو في جميع الأحوال لا يريد لهذا البلد أن يبقى مكاناً مثالياً للتعايش بين مكوناته المختلفة، وهدفه البعيد هو ضرب صيغة الشرق العربي القائم على التعدد والاختلاف، والذي يكمن غناه الفعلي في تنوعه عرقياً وطائفياً وثقافياً. كل من زار العراق قبل كارثة الاحتلال، لا بد أنه وقف على اللمسة الخاصة التي أعطاها المسيحيون للعراق، وذلك نابع من أصالتهم وتجذّرهم في تربة وهواء وماء هذه الارض منذ آشور بانيبال.
إن الهدف لا يخفى من وراء مشروع تهجير السكان الأصليين لهذه الأرض، لأنه بذلك يسهل محو ذاكرة العراق، وقتل روحه، وشطب خمسة آلاف سنة من تاريخ الحضارة الانسانية.
لا ينفرد المسيحيون عن بقية العراقيين في مواجهة هذا الحال المزري، إلا ان مأساتهم تبدو مركّبة، فالمسيحي العراقي محروم قبل كل شيء من الغطاء الطائفي الداخلي في الظرف الراهن، ولهذا فإنه تُرك خارج دائرة المحاصصة الطائفية في الحكم، التي قام على أساسها الوضع في فترة ما بعد الاحتلال. ورغم أن وزراء مسيحيين شغلوا مناصب في حكومات متعاقبة، إلا أنهم لم يكونوا محسوبين على حصة الطائفة المسيحية، بل على حصة الطرف الكردي، وهنا تكمن المفارقة الفعلية. وقد صار المكان الوحيد الآمن بالنسبة للمسيحيين منذ سنوات، هو الاقليم الكردي، بل إن المسيحيين الذين جرى تهجيرهم من هذه المناطق، خلال فترة حروب بغداد مع الاكراد، رجعوا إلى قراهم، وأعادوا تعميرها. والآن يجري تهجيرهم من جديد على يد "داعش".
إن الخطر الأكبر الذي سيترتب على التهجير اليوم، ليس فقط فرض الفرز السكاني بالدم، وزرع الاحقاد بين الطوائف والاعراق، بل نهاية العراق كصيغة، ومن وراءه الشرق ككل.