ولمنظّمات العمل الأهلي دور ملحوظ في المجتمع الفلسطينيّ بمختلف جغرافياته، وهناك شبه إجماع على اتساع الدّور الّذي تلعبه هذه المنظّمات، ولكنّ الكثيرين يختلفون حول ماهيّته. فوجود هذه المنظّمات يعتمد بالأساس على التّمويل الأجنبي، من أجل تنفيذ المشاريع الّتي تعكس أهدافها، أو أهداف التمويل. وبسبب قلّة المؤسّسات العربيّة التي تدعم عمل هذه المنظّمات في فلسطين، فإنّها تعتمد وبشكل أساسيّ على التّمويل الأجنبيّ، ويكون هذا التّمويل من خلال حكومات أو مؤسّسات غير حكوميّة تابعة للحكومات بشكل أو بآخر نحت مظلة المنظمات الكنسية.
ويفرض التّمويل الأجنبي قيودًا وشروطًا وسياسة معيّنة تتناسب مع الأجندة العالميّة المهيمنة على قطاع التمويل، وفق إيقاعات عمل الليبراليّة الجديدة. هؤلاء المموّلون يسقطون سياساتهم على المجتمعات العربيّة، وتحديدًا في فلسطين، وذلك من خلال المنّظمات غير الحكوميّة الفلسطينيّة المختلفة. ومن خلال هذه السياسات العالميّة يتحوّل دور المنظّمات إلى عامل صياغة جديد للمفاهيم الوطنيّة والاجتماعيّة للفلسطينيين. ويتضح التأثير الأكبر لهذه المنظّمات في المساحة المفاهيمية لطرق حلّ النزاعات وآليّات التعاطي مع الأوضاع القائمة في مناطق الصراع، إذ تتّفق مع معايير وسياسات المانحين. ففي معظم الأحوال يقوم المموّلون بفرض أجندتهم وبرامجهم السّياسيّة على الشّعب الفلسطينيّ أو على فئات منه، فيكون خطابهم معتمدًا على مرجعيّات أجنبيّة تؤمن بأهميّة التّأثير والتّغيير واحتواء أكبر عدد من المجموعات في أطر النّظام الرأسمالي العالمي. ويعود تاريخ مؤسّسات المجتمع المدنيّ في فلسطين إلى بدايات القرن الماضي، وكانت تعتمد هذه المؤسّسات على صناديق الدّعم الإسلاميّ والعربيّ، وأيضًا من خلال التّنظيمات والأحزاب السياسيّة، ولاحقًا على البرامج التنمويّة لبرنامج الأمم المتّحدة، إنّ هؤلاء المموّلين شكّلوا جزءًا من الواقع الاقتصاديّ للفلسطينيين. ولكن بعد اتّفاقيّة أوسلو ازداد حجم المساعدات والمنح الماليّة الأجنبيّة بشكل كبير، وهذا الأمر يبرز الاهتمام العالميّ بالتّدخّل في الصّراع العربي الإسرائيليّ، عبر الترّكيز على التّنمية وبناء مؤسّسات السّلطة التي قامت على أسس اتفاق أوسلو. وشهد التّمويل الأجنبيّ موجة صعود ثانية بعد الانتفاضة الثّانية/الأقصى، وكان يتركز خلال سنوات الانتفاضة على العمل الإغاثيّ وتلبية حالة الطّوارئ، ولكن كلّ هذه التّمويلات كانت تصبّ في أجندة دّوليّة، كما أن الوفرة المالية لقطاع العمل المؤسسي غير الحكومي وغير الحزبي، التي تلت هذه الموجة جعلت من منظّمات المجتمع الأهلي تصبح منافسة أو لاعبة لأدوار بديلة عن الأحزاب السّياسيّة في صياغة الوعيّ السّياسيّ للجماهير، ومما لا جدال حوله أن الفئة الأكثر استهدافًا هم الشّباب.
ويلحظ من خطاب جل المانحين الأجانب ملاينته للجغرافية، ففي القدس والدّاخل الفلسطينيّ تكون ميول المانحين نحو التّطبيع ومحاولة فرض برامج للسّلام والعيش المشترك، أمّا في الضّفة الغربيّة وغزّة فهناك محاولة لتلطيف الصّراع وتمييعه، أي قبول الاحتلال ومحاولة تحسين الأوضاع الحياتيّة، أما في الشّتات الفلسطينيّ فيكون الميول إلى الواقعيّة وإيجاد آفاق وحلول افتراضيّة لمشاكل اللّجوء، والأمثلة واسعة على ذلك، مثل المشاريع المقدمة من Christian aid السويسرية، وDCA الدنماركية لعدد من المؤسسات الفلسطينية التي تدعي أن اختصاصها التوعية بموضوع حق العودة، وغيره من الحقوق الفلسطينية ومنها المواطنة وحقوق اللاجئين، حيث تقوم هذه المشاريع على إشراك اللاجئين الفلسطينيين الشباب في لقاءات تطبيعية تحت حجة تخيل العودة والحلم بها، طبعا بالشراكة مع مؤسسات إسرائيلية ونشطاء إسرائيليين، ليسوا ضد الصهيونية بالضرورة.
يبقى القول، إن علينا أن نكون حذرين من إسقاط مفاهيم تخدم أجندات غربيّة وغير وطنيّة. وكذلك عدم القبول ببرامج التّطبيع. كما وأنّه يجب بناء منظمات مجتمع مدنيّ يكون عمادها الشباب وقضاياه الوطنية لا حرفه عنها.
(فلسطين)