في البرازيل، حقق بولسونارو فوزاً كاسحاً بـ56 في المائة من الأصوات على مرشح حزب العمال اليساري فرناندو حداد مع 44 في المائة فقط، منهياً مرحلة طويلة من الفوضى السياسية في البلاد، بدأت بعد فضيحة شركة "بتروبراس" النفطية عام 2014، وتورّط رؤساء وسياسيين فيها، ومن ضمنهم الرئيس الأسبق لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، والرئيسة السابقة ديلما روسيف. ومع اعتبار البعض أن انعكاس الفضيحة أدى إلى تدهور في الوضع الاقتصادي العام في البلاد، بدا أن اليمين متحفّز للعودة إلى السلطة بعد نحو عقدٍ ونيّف من غيابه عنها، فحتى الرئيس المنتهية ولايته ميشال تامر، لا يعتبر محسوباً عليه بالكامل. صحيح أن تامر يمينيّ، غير أنه محسوب على البورجوازيين أكثر منه على اليمين المتطرف بحدّ ذاته. ولأنه "غدّار"، حسبما وصفته روسيف، فإنه لم يجد من يسانده في الفترة التي ترأس فيها البلاد (2016 ـ 2018).
الدور الأميركي في انتخاب بولسونارو موجود في محطتين أساسيتين، مباشرة وأخرى غير مباشرة. في المباشر، حصل الأميركيون من بولسونارو على وعود بـ"مواجهة الإرهاب ومكافحة المخدرات". "الارهاب" بالنسبة للأميركيين، ليس مرتبطاً بالفافيلاس (المساكن العشوائية) المنتشرة في معظم مناطق البلاد، خصوصاً ريو دي جانيرو وساو باولو، بل يتعلق بالمثلث الحدودي بين البرازيل والأرجنتين والباراغواي، حيث ينشط حزب الله اللبناني، وفقاً للمخابرات الأميركية، عبر تجارة الممنوعات. هناك تمّ توقيف أسعد بركات في 21 سبتمبر/ أيلول الماضي، الرجل الموصوف بأنه اليد اليمنى للأمين العام لحزب الله حسن نصرالله. وفي اعتقاله عنوان عريض مفاده أن السلطات البرازيلية بمعونة الباراغواي والأرجنتين، ستعمل على مواجهة نفوذ حزب الله في تلك المنطقة. ومن الطبيعي أن بولسونارو سيحصل على الدعم الكامل في هذا الوضع.
إذا كان ما سبق "محطة مباشرة"، فإن الدعم الأميركي غير المباشر في انتخاب بولسونارو، يتعلق بدور القاضي سيرجيو مورو، الذي أدى دوراً رئيسياً في إيداع المتهمين بقضية "بتروبراس" السجون. مورو ليس بقاضٍ تقليدي، فقد درس كطالب زائر في جامعة هارفارد الأميركية عام 1998، ثم زار الولايات المتحدة عام 2007، مطلعاً على الوكالات والمعاهد العاملة في سياق محاربة "تبييض الأموال". مورو يُعتبر "الرجل الأميركي" قضائياً في البرازيل، وهو، بالإضافة إلى بولسونارو، سيُشكّلان رافعة لاختراق اليمين، أو بلغة أكثر دقة، حلفاء الرئيس الأميركي دونالد ترامب في البرازيل.
في الأرجنتين، تحوّل الوضع إلى محاولة من الرئيس ماوريسيو ماكري، لإنهاء الإرث اليساري في البلاد. صحيح أن الأرجنتين لم تكن يوماً شبيهة بالبرازيل، غير أنها وبعد الحكم العسكري (1976 ـ 1983)، غرقت في الفساد، فهدرت ثرواتها الضخمة، إلى حدّ انهيار الاقتصاد عام 2001. ماوريسيو اليميني حدّد معركته بأنها "ضد تبييض الأموال وضد المخدرات"، فالأرجنتين باتت من ضمن شبكة أميركية جنوبية، هي الثالثة في العالم في إنتاج الكوكايين. بدا الرئيس الأرجنتيني واضحاً في تحديد ما يريد، لكنه غير قادر على التنفيذ، على اعتبار أنه حتى "القوات المسلّحة لا تستطيع فرض قوتها، لا على الحدود ولا على غيرها"، في تتمة لهزيمة مدمّرة في حرب المالفيناس (جزر الفوكلاندز) عام 1982 بين الأرجنتين وبريطانيا، وانعدام القدرة على مواجهة عصابات المخدرات أو فرض القانون في المثلث الحدودي، مع الباراغواي والبرازيل.
السياسة الأرجنتينية المالية القائمة على الاستدانة من الخارج، خصوصاً من صندوق النقد الدولي، تجعل من الأرجنتين دولة ضعيفة في فرض قدراتها على الجوار، لكنها أقرب إلى اليمين، بفعل انتشار الأزمات الاجتماعية والفقر والتسوّل والسرقات والفساد والتهريب. كلها عوامل ستُفضي إلى قيام حراك ما في الداخل الأرجنتيني، قد يدفع أكثر باتجاه اليمين، سواء مع ماكري أو مع غيره.
أما في الباراغواي، ثالث دول المثلث الحدودي، فإنها تبدو أكثر وضوحاً من غيرها، فحزب كولورادو الحاكم هو أقدم الأحزاب اليمينية في البلاد، ومن خلاله وصل ماريو عبدو بينيتيز، من أصول لبنانية، إلى رئاسة البلاد في إبريل/ نيسان الماضي. بينيتيز معروف بأمرين: الأول، إنه خريج جامعة تايكيو بوست في ولاية كونيتيكت الأميركية. والثاني، إن والده كان السكرتير الشخصي للحاكم العسكري للبلاد ألفونسو ستروسنر، الذي قاد الباراغواي بين عامي 1954 و1989. مع ذلك فإن بينيتيز قام بخطوة متقدمة في القضية الفلسطينية، بإعلانه "إعادة السفارة الباراغوايانية إلى تل أبيب"، بعدما نقلها سلفه هوراسيو كارتيس إلى القدس المحتلة في 21 مايو/ أيار الماضي. الباراغواي لن تكون بعيدة عن "الحرب على الإرهاب"، خصوصاً أنها دولة "مغلقة"، أي غير مشرفة على أي من المحيطين الهادئ والأطلسي، شأنها شأن بوليفيا، من بين كل دول أميركا الجنوبية. ستحتاج طبعاً إلى مواكبة الحراك البرازيلي ـ الأرجنتيني هناك، لعدم توتر العلاقات معهما.
وبعيداً عن المثلث الحدودي، فإن الأوروغواي اليسارية تبدو الأكثر هدوءاً، خصوصاً أن وضعها كـ"مرفأ" بين البرازيل والأرجنتين لا يجعلها تطمح بأكثر من أداء دور "سويسرا أميركا الجنوبية". حكام البلاد يدركون ذلك جيداً، فالوقوع بين بلدين يمينيين لا يستدعي استنفاراً بقدر ما يستدعي المحافظة على الحركة الاقتصادية والتجارية معهما، فالأرجنتين والبرازيل هما ثاني وثالث البلدان التي تستورد منهما الأوروغواي على التوالي، كما أن البرازيل تحل في المرتبة الأولى استيراداً من الأوروغواي، والأرجنتين في المرتبة الثالثة. عليه، فإن الأوروغواي، وبمساحتها الصغيرة نسبياً (176.215 كيلومتراً مربعاً)، قياساً على الأرجنتين (2.780.400 كيلومتر مربّع) والبرازيل (8.515.767 كيلومتراً مربّعاً)، فإنها تشكّل عقبة أمام البلدين، أو حكمهما.
في تشيلي، فإن سيباستيان بينييرا، المنتمي إلى عائلة اليمين الوسط، هو الذي خَلَفَ اليسارية ميشيل باشليه، العام الماضي. خلافة مفعمة بالضجيج، فبينييرا اعترض على توقيف الديكتاتور أوغوستو بينوشيه، عام 1998 في لندن، على يد القاضي الإسباني بالتازار غارزون، وعلّل بينييرا ذلك بالقول إن "كرامة تشيلي أكبر من أن يتم توقيف أحد مواطنيها في الخارج". ولتأكيد "حياديته" بشأن بينوشيه، ذكر بأنه "صوّت بكلا ضد بينوشيه في استفتاء عام 1988"، الذي أنهى عملياً أي خطوة لتمديد ولاية الجنرال الذي وصل للسلطة بانقلاب دموي ضد سالفادور ألليندي، عام 1973، وبدعم أميركي.
في بوليفيا، لا يزال الرئيس إيفو موراليس، اليساري الغيفاري، مرتاحاً على وضعيته، لاعتبارات تاريخية، فالتراث البوليفي متأثر باليسار اللاتيني بشكل عام، خصوصاً أن البوليفيين، ولكونهم في منطقة جبلية من جبال الأنديز ومعزولة عن البحار والمحيطات (رغم محاولاتهم شقّ "دفرسوار" عبر تشيلي إلى المحيط الهادئ من خلال تقديم الطلب للأمم المتحدة تعليلاً لذلك)، ولكونهم مزارعين أساساً، ويخشون من سطوة الكنيسة وكبار الملّاكين، فإن اليسار قد يصمد، شرط ألا يتحوّل إلى يسار جامد. بناءً عليه، يبدو أن موراليس، الرئيس منذ عام 2006، فهم المعادلة جيداً، فاحتفظ بموقعه وسعى لترسيخ بعض الإصلاحات الموضعية، خصوصاً في تحديد أرباح شركات الهايدروكربون بنسبة 82 في المائة للدولة و18 في المائة للشركات. ومع اعتماده سياسة التأميم في الكثير من القطاعات، وأيضاً محاربته صناعة الكوكايين في البلاد، فإنه يبدو قادراً على تأمين ديمومته في السلطة.
في الإكوادور، اليسار لا يزال هو الحاكم مع وصول لينين مورينو إلى السلطة العام الماضي، وتحوّله إلى رمزٍ للإصلاحات في البلاد. لكن مورينو اختار الدعم الأميركي، بعد زيارة لنائب الرئيس الأميركي، مايك بنس، في يونيو/ حزيران الماضي، أفضت إلى تكريس التعاون العسكري بين الإكوادور والولايات المتحدة. وتلا ذلك انسحاب كيتو من معاهدة "ألبا" (التحالف البوليفاري لشعوبنا الأميركية) بسبب الصدام مع فنزويلا في أغسطس/ آب الماضي، على خلفية قدوم المهاجرين من فنزويلا المنكوبة. مورينو يساريّ لكنه بدا كآخر رئيس سوفييتي، ميخائيل غورباتشيف، لناحية اعتماده سياسة التعاون مع الغرب، لمنع التغلغل الفنزويلي السياسي في البلاد.
في البيرو، فإن الرئيس المنتمي إلى وسط اليمين، مارتن فيزكارّا، وصل إلى الحكم نتيجة خيبات متتالية للبلاد، بفعل الفساد المستشري، والذي كان من أبطاله، لا البطل الوحيد، ألبرتو فوجيموري. يركّز فيزكارّا على الوضع الداخلي، في ظل المماحكات بينه وبين الكونغرس، والتي دفعته إلى رمي فكرة إجراء استفتاء على الإصلاحات القضائية والسياسية، في صورة تُظهر أن عهد فيزكارّا لن يكون عهداً للأولوية الخارجية، بل للداخل البيروفي.
في كولومبيا، فإن الرئيس اليميني إيفان دوكي، خَلَفَ أحد أبرز رؤساء كولومبيا في العقود الأخيرة، خوان مانويل كارلوس، الذي بات معروفاً بـ"صانع السلام الكولومبي"، لجهة توقيع اتفاق سلام مع منظمة "فارك" (القوات المسلحة الثورية الكولومبية)، بعد حرب أهلية دامت من عام 1964 حتى توقيع السلام عام 2016. ودوكي متسلّح بدعم أميركي أيضاً، لجهة إنهاء الحرب مع كل الفصائل المقاتلة الكولومبية، وأيضاً ضد تجارة المخدرات. وكولومبيا تُعتبر حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة، وهو ما تتخوّف منه فنزويلا، التي لطالما نبّهت لاحتمال قيام الولايات المتحدة بانقلاب عسكري في داخلها، انطلاقاً من كولومبيا.
في فنزويلا، يبدو الضجيج المحيط بالرئيس اليساري نيكولاس مادورو، أقرب إلى مراحل ما قبل السقوط المرتقب. مادورو خسر دعم جميع البلدان المجاورة، ما عدا كوبا ربما، فضلاً عن أنه بات وحيداً في مقارعة الجميع. أما في الداخل، فإن اليمين الفنزويلي، وإن كان منقسماً إلى فئات وأحزاب مع ماضٍ مؤلم، إلا أنه بات أقرب للعودة إلى السلطة في أي حقبة زمنية. ومادورو استشعر الخطر، حين تحدث عن محاولة اغتياله مرات عديدة، وآخرها في الصيف الماضي. عملياً، تُعتبر فنزويلا الدولة الوحيدة التي "تعادي" الولايات المتحدة في أميركا الجنوبية، لكنها أيضاً، وبسبب سياسات مادورو، باتت أكثر قبولاً لعودة الحكم اليميني، سواء عبر الجيش أو الكنيسة أو رجال الأعمال والأحزاب الليبرالية. ولأن الأرقام لا تكذب، فقد بلغ عدد اللاجئين نحو مليوني شخص، توزّعوا بين كولومبيا والبرازيل والبيرو والإكوادور. وبعضهم يعاني من العنصرية والطبقية. كما أن الاقتصاد مدمّر، فالتضخّم في أعلى مستوياته، واعتماد عملة جديدة لم ينقذ البلاد من الفوضى المالية والتجارية.