تأكيد مرزوق أن طرحه مجرد اقتراح وليس قراراً، وأن الأمر سيوكل للبلديات التي سيتم انتخابها، لم يحل من دون أن تثير دعوته جدلاً في تونس بين مرحّب ورافض ومتهكّم.
وكانت تماثيل بورقيبة تحتل أبرز الساحات العمومية في أغلب المدن قبل أن يأمر الرئيس المخلوع، زين العابدين بن علي، بإزالتها، في ظل صمت كل الذين عادوا اليوم "لاعتناق البورقيبية" وادعاء الانتساب إلى فكره ومدرسته، بل والتنافس على "أحقية مواصلة مشروعه". ولم يقتصر الأمر على التجمعيين أو الدستوريين أو البورقيبيين، وإنما تعداه الى باقي المدارس الفكرية والسياسية التي كانت تعارضه وتنتقده ودخلت بسببه السجون وهربت إلى المنافي. ولم يُستثن منها تقريباً إلا العائلة القومية العروبية التي لم تتصالح معه ولم تغفر له كرهه المعلن لفكرة الأمة العربية ووقوفه ضد مشاريع الوحدة العربية.
اقرأ أيضاً: في ذكرى وفاة بورقيبة: هل يكون السبسي نسخة منه؟
بورقيبة لم يكن يؤمن بغير "الأمة التونسية" وضرورة أن تنظر شمالاً في اتجاه أوروبا الحديثة وتسعى إلى اللحاق بها. وكانت البوصلة باستمرار في هذا الاتجاه الذي لم يحِد عنه بورقيبة قط وقاوم في أثنائه كل محاولات الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي لتوحيد تونس وليبيا. ودفعت تونس تبعاً لذلك ثمناً باهظاً وصل إلى حد محاولة الانقلاب عن طريق التدخل العسكري. وكان بورقيبة ينطلق في رفضه للتوحيد من فشل التجربة المصرية السورية، مع خلافه المعروف مع الزعيم المصري جمال عبد الناصر، وموقفه من القضية الفلسطينية الذي جلب له كل اتهامات العمالة والخنوع من طرف المدافعين عن مبدأ المقاومة.
غير أن اللافت في الأيام الأخيرة هو موقف زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، الذي يمضي بسرعة قصوى في عملية المراجعة الفكرية في كل الاتجاهات وعلى كل المحاور. أشار الغنوشي في تصريح صحافي إلى أن "بورقيبة رجل قاد الحركة الوطنية ووصل بالبلاد إلى الاستقلال وبنى الدولة التونسية فلا نملك إلا أنّ نترحّم عليه". وهو موقف جديد للغنوشي الذي كان يعتبر بورقيبة "مطبّعاً متصهيناً"، ويؤكد "أن الاستقلال كان صفقة لطمس الهوية العربية الإسلامية وليجعل بورقيبة من العربية لغة ثانية في تونس".
وتكمن قوة الموقف الجديد للغنوشي في مدى تسامحه مع نظام كان يستعد في أيامه الأخيرة للقضاء نهائياً على الإسلاميين بتنفيذ حكم الإعدام على عدد من قيادات الحركة الإسلامية وقتها.
زعيم حركة النهضة، في موقف الهادئ بعد سنوات طويلة من الصراع مع بورقيبة، لا يريد على ما يبدو أن ينكر على الرجل إسهامه الواضح في بناء الدولة الحديثة، التي تتصالح الحركة مع الكثير من مقوماتها، بما في ذلك مجلة الأحوال الشخصية (القوانين) التي تحفظ حقوق المرأة، والفصل الأول من الدستور القديم الذي يحدد هوية الدولة التونسية في الجمع بين العروبة والإسلام، بعد جدل استمر شهوراً طويلة بعد الثورة إبان الشروع في صياغة الدستور الجديد.
ولا يبدو أن الإسلاميين وحدهم مَن تصالح مع بورقيبة. فكثير من الروافد اليسارية، التي عانت طويلاً من حكم "المستبد المستنير" كما يسميه كثر، ودخلت سجونه لسنوات طويلة، تعود هذه الأيام لتجديد موقفها من بورقيبة، ويبدو موقف وزير الخارجية الحالي الطيب البكوش لافتا في هذا الصدد.
فالبكوش سُجن سنة 1978 مع عدد كبير من النقابيين على خلفية "أحداث يناير"، بعد توتر العلاقة بين اتحاد الشغل وبورقيبة، عقب خلافات حول وضعية الأجراء وتدهور الوضع الاقتصادي ونقد الاتحاد لخيارات حكومة بورقيبة .
وأعدّٰ البكوش داخل السجن رسالة دكتوراه، ومنحه بورقيبة عفواً خاصاً لمناقشة رسالته سنة 1980، وحصل بالفعل على شهادة الدكتوراه من جامعة السوربون في باريس.
وعلى الرغم من سنوات السجن والظلم والملاحقة، فقد قال البكوش، منذ أيام، خلال تواجده في منطقة المنستير بمناسبة إحياء ذكرى وفاة بورقيبة، "إن دبلوماسية الحكومة الحالية مستلهمة من سياسىة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة". وسبق لوزير الخارجية التونسي الحالي أن عبّر في عيد المرأة عن "شديد اعتزازه بإنجازات الزعيم الحبيب بورقيبة ولا سيما إصداره لمجلة الأحوال الشخصية".
ولم يشذّ زعيم الجبهة الشعبية (اليسارية)، حمة الهمامي، عن فكرة إعادة النظر في بعض فصول علاقته مع بورقيبة على الرغم من تشديده على خلافه معه إلى اليوم، حين اعتبر أن "بورقيبة هو الابن الشرعي لتونس وللحركة الإصلاحية"، وأن الأخير كان يفضّل التحاور مع معارضين مثقفين على جهلة، بحسب تعبيره في حوار تلفزيوني منذ فترة. كما ذكّر الهمامي بمشادة كلامية قوية بينه وبين بورقيبة حين أخرجه من السجن للتحاور معه ومع رفاقه ثم أعاده إليه.
من جهته، كان الرئيس السابق، منصف المرزوقي، تحدث عن بورقيبة قبل الانتخابات الرئاسية مؤكداً أن "لبورقيبة ثلاثة مكاسب مهمة الله يجازيه خيراً عليها، أولها التعليم ثم تحرير المرأة والمساهمة في تحرير البلاد من الاستعمار".
وأضاف المرزوقي "لكني ألوم بورقيبة على رفضه للديمقراطية في انتخابات 1981 وجلبه "العاهة بن علي" الذي تسبب في دمار البلاد طيلة 25 سنة"، متابعاً "سامحك الله على هذا الخطأ الذي نتجرعه يومياً".
ولئن كانت مواقف بعض الإسلاميين واليساريين تتضمن إعادة النظر في حكمهم الشمولي على بورقيبة، وتصويب مواقفهم في بعض المسائل، من دون التراجع عن كون الأخير تصدى مطولاً لدمقرطة الحياة السياسية في تونس، وألقى بكثير من خصومه في السجن والمنافي، واتهامه بتصفية بعضهم على غرار صالح بن يوسف، فإن كثيراً من المواقف الأخرى توصف بالانتهازية السياسية واستثمار حب الكثير من التونسيين لبورقيبة من أجل غايات سياسية انتخابية صرفة. وهي التهمة التي تُوجه إلى كل الأحزاب التي خرجت من رحم حزب التجمع المنحل، ومن بينها "نداء تونس".
ويستدل هؤلاء على أن بورقيبة كان وحيداً في منفاه بمنزله في المنستير، تحت الإقامة الجبرية التي وضعه فيها الرئيس المخلوع، ولم يعلن صوت واحد من هؤلاء عن انتسابه للبورقيبية قبل الثورة، غير أن بورقيبة شكّل ملاذاً آمناً لهم بعد حلّ التجمع بعد الثورة. واستغلّوا رصيده الشعبي لإعادة بناء قوة سياسية تستند إلى فكرة بورقيبة الأساسية "هيبة الدولة". ووصل الأمر بالسبسي إلى التشبه الكلي ببورقيبة في مدينة قصر هلال، موطن ولادة الحزب الدستوري، مع التشابه الحقيقي بينهما في كثير من النقاط شكلاً ومضموناً، وعلى الرغم من الخلاف الكبير الذي كان بينهما.
وتتنازع كثير من التيارات والشخصيات السياسية حول هذا الموضوع الذي يُطرح بقوة في تونس، بين مؤمنين بفكرة الدولة المتفتحة العصرية التي حلم بها بورقيبة وبين من يرى أنه قد سعى إلى بنائها على أنقاض معارضيه، وبكل الأثمان الباهظة التي دفعتها أجيال.
وحدث ذلك على الرغم من تردد خياراته الجوهرية التي طبعت سنوات بنائه للدولة التونسية التي مرّ بها من الاشتراكية مع أحمد بن صالح (في الستينيات) إلى الليبيرالية مع الهادي نويرة (في السبعينيات) ثم إلى مسحة عروبية اجتماعية مع محمد مزالي (في الثمانينيات).