لم يفوّت الرئيس التونسي قيس سعيّد، منذ وصوله إلى قصر قرطاج، بياناً أو خطاباً، إلا وشحنه بعبارات الحرب، ليُذكّر في كلّ مرة يتحدث فيها، بـ"مؤامرات تحاك في الداخل والخارج ضد البلاد"، واستعداده لفرض القانون وإنهاء حالة الارتباك والتعطيل في مؤسسات الدولة، حكومةً وبرلماناً، من خلال ما يمتلكه من صلاحيات، يقول إنه ينتظر الفرص السانحة لتفعيلها. ويأتي ذلك، فيما تمر تونس بأزمةٍ سياسية خانقة، تعطل معها مسار الدولة الاقتصادي والاجتماعي. فعلاوة على استقالة حكومة الياس الفخفاخ، يعيش البرلمان حالة من التعثر والتعطيل بسبب كتلة الحزب "الدستوري الحر"، ما يوفر السياقات والمناخات الملائمة أمام سعيّد للقيام بتحرك ما، قد يكون تفعيل المادة 80 من الدستور، على الرغم مما تنطوي عليه تلك الخطوة من إشكاليات.
ولطالما ردّد الرئيس التونسي الحديث عن اكتشافه "مؤامرات" تحاك ضده وضد البلاد في "الغرف المظلمة"، مشدداً في أكثر من مناسبة على امتلاكه معلومات حول تدخلات قوى خارجية في تونس لمحاولة بثّ الفوضى وزعزعة الاستقرار، وذلك بالتواطؤ مع أطراف من الداخل. كما أكد سعيّد، في ذات السياق، أنه سيتصدى لكل ما يحاك، وأن تلك المؤامرات "ستتكسر أمام بسالة الجيش والأمن وأمام إرادة الشعب". ولم يكشف الرئيس التونسي مرة عن هوية المتآمرين، ولا عن خيوط المؤامرة، لكن ترديده للفكرة ذاتها بثّ القلق في نفوس المواطنين من مجهولٍ يتربص بالبلاد وبمؤسساتها، ليبدو وكأن القائد الأعلى للقوات المسلحة، أي الرئيس نفسه، قد أعلن الحرب على قوى وأطراف، لا تزال مجهولة وغامضة.
يعلم سعيّد أن تنقيح القانون الانتخابي والنظام السياسي، غير مقبول من البرلمان الحالي، بتركيبته الرافضة للمسّ بدستور 2014
وبالعودة إلى مقتطفات من كلمات ألقاها منذ توليه الرئاسة، فإن قيس سعيّد لم يتوان عن التذكير بخطورة الوضع والأزمة التي تشهدها تونس. آخر ذلك، تذكيره منذ أيام، خلال زيارة قام بها إلى وزارة الداخلية، وإلى قاعدة عسكرية، بأن "رئاسة الدولة ليست بالكرسي الشاغر"، مضيفاً "سنواجه بالقوة والضرب على أيدي كل من يفكر مجرد التفكير بأي شكل من الأشكال في تجاوز الشرعية من الخارج أو من الداخل". وأكد الرئيس أن "القوات العسكرية المسلحة جاهزة دائماً للتصدي للمؤامرات... فجيشنا الوطني البطل لا يقبل إلا بالانتصار أو بالاستشهاد، ومن يفكر في تجاوز الشرعية، سيجد حائطاً تتكسر عليه أضغاث أحلامه".
ويعدّ تصريح سعيّد خلال زيارته وزارة الداخلية أخيراً، منسجماً مع ما كان أطلقه في مجلس الأمن القومي (في 10 يوليو/تموز الحالي) بخصوص "وجود أطراف تسعى إلى تفجير الدولة من الداخل". لكن الفكرة ظلّ يرددها منذ وقت، وهي تتطابق مع ما كان كذلك أكده نهاية العام الماضي خلال زيارته محافظة سيدي بوزيد، إذ توجه إلى حشود من الجماهير قائلاً "أتسمعون ما يقولون في أجهزة الإعلام؟ سيأتيهم الجواب مزلزلاً مدّويا"، متحدثاً كذلك عن "مناورات ومؤامرات تحاك في الظلام"، بحسب تعبيره. وفي لقاء له مع رئيس البرلمان راشد الغنوشي يوم الإثنين الماضي، قال الرئيس التونسي إن "الوسائل القانونية المتاحة في الدستور موجودة لديّ اليوم، بل هي كالصواريخ على منصات إطلاقها، ولكني لا أريد اللجوء إليها في هذا الظرف بالذات، لكني لن أترك أيضاً الدولة التونسية بهذا الشكل".
واستنتاجاً من تلك التصريحات، يرى مراقبون أن الرئيس التونسي يمهد الأرضية من أجل تهيئة الشعب لفكرة القبول بتفعيل البند 80 من الدستور، خصوصاً لعلمه أنّ تنقيح القانون الانتخابي والنظام السياسي في البلاد، غير مقبول من البرلمان الحالي، بتركيبته الرافضة للمسّ بدستور العام 2014.
وينصّ البند 80 من الدستور التونسي، على أنّ "لرئيس الجمهورية في حالة خطر داهم مهددٍ لكيان الوطن أو أمن البلاد أو استقلالها، ويتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، أن يتخذ التدابير التي تحتّمها الحالة الاستثنائية، وذلك بعد استشارة رئيسي الحكومة والبرلمان، وإعلام رئيس المحكمة الدستورية، ويعلن عن التدابير في بيان إلى الشعب"، ما قد يعني تعليق العمل بالدستور وجميع المؤسسات، والإمساك بالدولة بقبضة من حديد. ويستعين الرئيس، في مثل هذه الحالة، بمؤسستي الأمن والجيش، بما يعني تجميع كل السلطات وردّها إليه.
وتعليقاً على إمكانية الذهاب إلى تلك الخطوة، توضح أستاذة القانون الدستوري وخبيرة القانون البرلماني، منى كريم الدريدي، أن تفعيل البند 80 من الدستور من قبل الرئيس، يجب أن تتوفر حوله شروط شكلية وأخرى موضوعية. وتشرح الدريدي، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنه "من حيث الشكل، يجب استشارة المحكمة الدستورية التي لم يتم تشكيلها بعد، وهو شرط أساسي، أما الشرط الموضوعي، فهو ضرورة وجود خطر داهم، يهدد كيان الدولة واستقرارها، ونحن نعرف هذا النوع بالخطر الخارجي"، مؤكدة "عدم توفر شروط اعتماد البند 80 حالياً".
لكن الخبيرة القانونية تلفت في الوقت ذاته إلى أن الرئيس بإمكانه الذهاب في تأويله نحو تفعيل البند 80، انطلاقاً من تصريحاته التي عبّر فيها عن وجود مؤامرات خارجية، وأن تونس تمر بأزمة تعطل مسار الدولة، مشيرة إلى أنه بإمكان سعيّد غضّ الطرف عن الشرط الشكلي بغياب المحكمة الدستورية، بسبب توفر الشرط الموضوعي، وهو الخطر "الداهم". واعتباراً لأنه الحامي والضامن لتطبيق الدستور، بحسب ما يعرّفه هذا الدستور، ترى الدريدي أن بإمكان الرئيس الذهاب لتفعيل هذا البند، متحدثة عن سابقة في غضّ الطرف عن غياب المحكمة الدستورية، حين أُعلنت حالة الشغور عند وفاة الرئيس الباجي قائد السبسي، وتم إعلام الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين (المحكمة الدستورية الوقتية) على الرغم من عدم اختصاصها، وتم تأمين انتقال السلطة إلى رئيس البرلمان في غياب "الدستورية"، بهدف حماية المسار وضمان استمرار الدولة.
على الرغم من ذلك، تستبعد خبيرة القانون الدستوري ذهاب سعيّد في هذا النهج من الاجتهاد، مشددة على أنه انطلاقا من معرفتها القريبة به، فالرئيس ينتمي إلى العائلة القانونية "مذهب الشرح على المتون"، وهي مدرسة التزام النصوص واحترام الشكليات، أي أنه يقف عند حرف النصّ الدستوري وكلماته، ما يجعل بحسب رأيها الذهاب في هذا التأويل الواسع، مستبعداً جداً.
تؤكد تصريحات الرئيس التونسي أنه ذاهب نحو حلّ البرلمان إذا لم تحصل حكومة هشام المشيشي على ثقة السلطة التشريعية
وأكدت كريم أن تفعيل البند 80 "ينطوي على خطورة كبيرة، لأنه يؤسس لديكتاتورية الرئيس"، الذي "سيجمع بذلك كلّ السلطات، ما يحول الحكم عبر أوامر رئاسية، وينتفي معه مبدأ الفصل بين السلطات، وينتهي مجال القوانين والتراتيب، ويتم تسيير البلاد بالأوامر". كما أن من تبعات تلك الخطوة، بحسب شرح الدريدي، "انتفاء عمل البرلمان كسلطة تشريعيّة، ليبقى في حالة انعقاد لمدة شهر، يتم تجديدها برأي المحكمة الدستورية". وتلفت في هذا الإطار إلى "صعوبة تعديل القانون الانتخابي في تلك الفترة، استناداً للبند 70، وبالقياس عليه باعتبار الدستور يؤول كوحدة منسجمة على الرغم من عدم التنصيص على ذلك صراحة في البند 80". وتشير كذلك إلى أن الرئيس "إذا ذهب في اتجاه إصدار أوامر رئاسية لتغيير القانون الانتخابي، فلا توجد آلية للطعن في ذلك أو رفضه"، مرجحة أن يذهب سعيّد نحو تقديم مبادرة تشريعية للمصادقة عليها من قبل البرلمان، عوض استخدام هذه الاستثناءات.
وأخيراً، ترى الخبيرة القانونية أن خطابات الرئيس ورسائله تؤكد ذهابه نحو حلّ البرلمان إذا لم تحصل حكومة هشام المشيشي على ثقة السلطة التشريعية، وذلك بعدما ردّد أن أمام الأخير شهراً واحداً غير قابل للتجديد. وتشير في هذا الصدد إلى أن الدستور يعطي الرئيس الحق في حلّ البرلمان، أي أنها إمكانية وليست شرطاً وجوبياً. لكنها تضيف، ارتباطاً بـ"العودة إلى خطابات الرئيس وإنذاراته وتهديداته بحديث الصواريخ التي أجّل استعمالها، وحديث تغيير الشرعية، وبالقياس على البند 99 من الدستور، فإن سعيّد يتجه نحو حلّ البرلمان في حالة الإخفاق في تمرير الحكومة أو رفضها، غير أن إعادة الانتخابات بالقوانين والأنظمة الانتخابية نفسها تصبح غير ذات جدوى، لأن احتمالات إنتاج المنظومة نفسها وارد جداً".