عندما خرج جون مينارد كينز بالقول، عام 1936، إن ارتفاع عرض النقد في أي سوق سوف يؤدي إلى تخفيض سعر الفائدة، تقبل الاقتصاديون ورجال الأسواق المالية تلك الفكرة على أنها بديهية واضحة لا تقبل الجدل.
ولكن ميلتون فريدمان قال، بعد 40 سنة، إن مقولة كينز صحيحة في المدى القصير، أما في المدى الطويل، فإن ارتفاع سعر الفائدة بالاتجاه نفسه يسير فيه عرض النقد وحجم السيولة في السوق، فالدول التي تعاني من ظاهرة التضخم، تجد فيه سعر الفائدة وحجم السيولة مرتفعين.
ولكن السبب أن كلا المتغيرين يتأثر بعوامل خارج السوق، أو بقرارات السلطات النقدية، فارتفاع السيولة، ومن ثَمّ ارتفاع أسعار السلع والخدمات، سيدفعان السلطات النقدية إلى رفع أسعار الفوائد، وسيلة تصحيحية لضبط التضخم. وهذا يتناقض مع فرضية جون كينز أن سعر الفائدة يتحدّد بموجب منحنيي العرض والطلب في سوق النقد.
وارتفاع السيولة في المدى القصير يؤدي إلى انخفاض أسعار الفائدة، صحيح كما قال كينز.
ولكن ذلك يدفع المستثمرين والمستهلكين إلى زيادة الطلب على السيولة للإنفاق، ما يحرّك المضاعف ويرفع الدخول.
وبارتفاع الدخول، يزيد الطلب على الاقتراض، فتبدأ أسعار الفوائد بالارتفاع في المدى المتوسط.
وبحسب ميلتون فريدمان، يدفع ارتفاع الطلب على السيولة السلطات النقدية إلى زيادتها، ما يؤدي إلى تخفيض أسعار الفوائد مؤقتاً، لكنها، بفعل زيادة الدخول، تعود إلى الارتفاع إلى مستوياتٍ أعلى مما كانت عليه. وبتكرار هذه العملية، تزيد السيولة، وترتفع الفوائد، ويدخل الاقتصاد في حالة التضخم.
وبتغير ظروف العرض والطلب على أي ورقةٍ ماليةٍ أو سند، فإن سعر الفائدة عليها سيتغير. وسيكون حجم التغيير في أسعار الفوائد متقلباً حسب ديناميكية السوق. ومهارة الوسطاء الماليين، وحسب توقّعات المستثمرين.
وعند الحديث عن ردود الفعل الإنسانية، خصوصا من المستثمرين المؤسسين، أو من الوسطاء، أو حتى المستشارين الخبراء الذين يقدّمون النصائح ويقرأون المستقبل، فإن السوق يتذبذب صعوداً وهبوطاً.
ويؤكد فريدمان أن قراءة المستقبل صعبة جداً في حالة حصول التقلبات السريعة في أسعار الأسواق المالية والنقدية.. فالناس، حسب رأيه، لا يُخضِعون حساباتهم وتنبؤاتهم للعلم والتحليل الإحصائي فقط، بل إنهم كثيراً ما يكونون متشائمين أو متفائلين، لأسبابٍ غير عقلانية أو منطقية. وسمى هذه الظاهرة بـ "أثر جيبسون"، أو ظاهرة الحكم على الأشياء بمنطق وبغير منطق".
ومنذ منتصف العام الحالي 2018، ونحن نراقب أسواق المال في العالم، فنراها تعاني من ظاهرة التقلب السريع أو المفاجئ في أرقامها القياسية، وفي أسعار بعض الأسهم والأوراق المالية والسندات العامة والخاصة.
وقد عزا محللون تلك الظاهرة (Volatility) إلى تراجع معدّلات النمو في الصين، وتقلب الأسعار في أسواق المال الثلاثة فيها. وحيث إن حجم الاقتصاد الصيني كبير، انتقلت العدوى إلى أسواق المال الأخرى في آسيا، ومن ثم إلى باقي أسواق العالم الرئيسية.
وهنالك من يرمي السبب الرئيسي إلى التوترات السياسية بين الدول، والناشئة، في الدرجة الأولى، عن ممارسات الإدارة الأميركية الحالية، وسياسة "الحافّة" التي تنتهجها في تعاملها الاقتصادي مع شركائها الكبار في شمال القارة الأميركية وجنوبها، ومع الصين، وروسيا، ودول الخليج وغيرها. فتارةً تنسحب من اتفاقات التجارة الحرة، بهدف إعادة التفاوض، وفي حالةٍ أخرى تفرض رسوماً جمركية على مستورداتها من الحديد والألومنيوم، ثم تضعها على اقتصاداتٍ بعينها، وخصوصا في الصين.
ومع أن الصين تكيل الصاع بالصاع، إلا أنها، وفقاً لمراقبين كثيرين، اتبعت سياسات تصحيحية أدت إلى استقرار الاقتصاد الصيني، مثل إعادة توجيه الدعم، وإجراء تحويلاتٍ في هياكلها الإنتاجية، واتباع سياسة أسعار فوائد تهدف إلى الاستقرار.
ولذلك، يرى كثيرون أن هنالك إمكانية للوصول إلى اتفاقٍ مع الولايات المتحدة حول العجز التجاري، وتهمة القرصنة التكنولوجية الموجهة ضد الصين، وكذلك سياسات الدعم والسماح بمزيدٍ من المرونة في أسعار صرف العملة الصينية (آر. بي. إم)، وقد تظهر هذه النتائج بشكل إيجابي على الاقتصاد العالمي، بعد انتخابات منتصف الفترة في الولايات المتحدة.
يبقى على العالم أن يُحدِث استقراراً في أكثر مناطقه حروباً وخصوماتٍ سياسية، وهي منطقة الشرق الأوسط. وإذا لمسنا مثل هذا التغير، فربما يشهد الاقتصاد العالمي بعض الاستقرار.
ولكن لا أحد يستطيع أن يضمن ذلك بسبب تكاثر القوى المتعاكسة والمتنافرة، وغياب السلطات التوفيقية عن المسرح العالمي.