تقدير موقف: ليبيا ومخاوف طريق الاقتتال الأهلي الشامل

02 يونيو 2014

آثار قصف قوات حفتر في بنغازي (فرانس برس)

+ الخط -

 بعد فشل انقلابه الأول، الذي وُصف بـ "التلفزيوني"، في فبراير/ شباط 2014، عاد اللواء المتقاعد، خليفة حفتر، يوم 16 مايو/ أيار الماضي، بمحاولة أكثر جدية، لإطاحة المؤتمر الوطني العامّ، والسيطرة على السلطة، فقد شنَّت قوات تابعة له هجومًا على معسكرات كتائب راف الله السحاتي و17 فبراير، التي تـُعدُّ من أكبر الكتائب الثورية وأقواها في بنغازي وليبيا بوجهٍ عامٍّ، وأعلن حفتر إطلاق ما سمَّاها "عملية الكرامة" لـ "تخليص ليبيا من الإرهابيين"، بعد أن طعن في شرعية الحكومة والمؤتمر الوطني العامّ.

طبيعة الأزمة وأبعادها


بعد مرور ثلاث سنوات على خلاصها من نظام معمر القذافي، ما زالت ليبيا عاجزةً عن تحقيق الاستقرار الأمني والتوافق السياسي، الذي يسمح بعبور المرحلة الانتقالية إلى مرحلة ديمقراطية، وما زالت البلاد تنتقل من أزمة إلى أخرى، منذ انتخابات المؤتمر الوطني العامّ صيفَ 2012، والصراع الذي نشأ داخله بين أكبر كتلتين سياسيتين، هما جماعة الإخوان المسلمين وحلفاؤهم من المستقلين، وتحالف القوى الوطنية بقيادة محمود جبريل.

وقد واجه المؤتمر الوطني، والحكومة المؤقَّتة المنبثقة منه، جملة تحدياتٍ، جعلت الأزمة تأخذ طابعًا بنيويًّا، تمثّلت في عدم وجود دولة ومؤسسات، وغياب أيِّ شكلٍ من الحياة السياسية، وعدم امتلاك رؤية لإدارة المرحلة الانتقالية، وفشل محاولات إنشاء جيش وطني جامع، ودمج المليشيات ونزع السلاح، وزيادة معدّلات الفساد، لتأتيَ، أخيرًا، أزمة تجديد المؤتمر الوطني لنفسه، بعد انتهاء المدة المحددة له، وفقًا للإعلان الدستوري، وعدم إنجاز كتابة الدستور في موعده. وقد أضعف هذا الفشل الهيئة الوحيدة المنتخبة ديمقراطيًّا في البلاد، وقلَّص شعبيتها، وسمح لقوى متضررة من سقوط نظام القذافي، أو قانون العزل السياسي، باستغلال الاستياء الشعبي المتنامي من استمرار هذه الأوضاع، لتقدِّم نفسها بوصفها بديلًا ومخلّصًا، بعد أن توفر لها الدعم الإقليمي اللازم للتحرك.

من هذا السياق، انطلقت حركة اللواء حفتر الجديدة، للإجهاز على الهيئات القائمة، والاستيلاء على السلطة. لكنّ هذه العملية أدت إلى تنامي الاحتقان في المجتمع الليبي، وتزايد الاستقطاب بين قواه السياسية والتقليدية المختلفة، مما يهدّد باندلاع حرب أهلية شاملة، بعد أن أخذت خريطة التحالفات الناشئة تتبلور.

"تقف ليبيا اليوم على مفترق طريق خطِر، وإن لم يجرِ تدارك الوضع بالحوار، والتوافق الوطني، والاحتكام إلى الإرادة الشعبية التي ينبغي أن يُعبَّر عنها سلميًّا عبر صناديق الاقتراع؛ لإكمال مسيرة التحول الديمقراطي، فعلى الأرجح أنّ البلاد سوف تدخل في حالة نزاع مسلَّح قد يشمل ليبيا كلَّها، أو أجزاءً كبيرةً منها"



خريطة الانقسام الليبي


تتوزع القوى المتنافسة في ليبيا بين تنظيمات سياسية ومجموعات مسلحة عديدة، تتفاوت في توجهاتها الأيديولوجية، ومواقفها الفكرية، وقدراتها العسكرية، وأهم هذه القوى:

1. حفتر وحلفاؤه

تتشكل قوات حفتر بالأساس من عسكريين سابقين، من بقايا جيش القذافي، وقد انضمت إليه مليشيات مختلفة، تعمل تحت إمرته. ويصف حفتر قواته بأنها الجيش الليبي الوطني، على الرّغم من أنها في حقيقة الأمر ليست أكثر من ميلشيا خاصة، مثل غيرها من المليشيات على الساحة الليبية، وإن كانت أكثر انضباطًا، نظرًا إلى وجود قيادات عسكرية في صفوفها. ومن أبرز حلفاء حفتر:

أ. لواء الصواعق والقعقاع

يتكون من خليط من سكان المنطقة الغربية، ويغلب عليهم أفراد من قبيلة الزنتان، إضافةً إلى عناصر من كتائب القذافي، بخاصة اللواء 32 معزز، الذي كان يقوده خميس القذافي. ومن المعروف كذلك وجود علاقة قوية لحفتر بتحالف القوى الوطنية، برئاسة محمود جبريل. وجاء تأسيس "الصواعق" و"القعقاع" على يد وزير الدفاع السابق، أسامة أجويلي، في يناير/ كانون ثاني 2012، عندما أسس رئيس أركان الجيش الوطني آنذاك، يوسف المنقوش، لواء "الوسطى" التابع لمدينة مصراتة (شرق طرابلس)، وقوامه نحو 14 ألف مسلح أغلبهم من الثوار.

ب. الفيدراليون
يتزعمهم قائد ما يسمَّى "جيش برقة"، إبراهيم الجضران، الذي يطالب بأن تكون برقة إقليمًا فيدراليًّا. وقد سيطرت قواته على حقول النفط وموانئ التصدير، لإجبار المؤتمر الوطني على قبول الفيدرالية، وانضمت قوات تابعة له من مدينة المرج، في نواحي الجبل الأخضر، إلى قوات حفتر التي شنَّت هجومًا على كتائب مدينة بنغازي يوم 16 مايو/ أيار 2014.

ج. تحالف القوى الوطنية

أنشأه رئيس المكتب التنفيذي السابق للمجلس الانتقالي، محمود جبريل، في أثناء الثورة (رئيس الوزراء)، ويضمّ هذا التحالف 58 تجمُّعًا وحزبًا، لا يمكن وصف كثير منها بالليبرالية؛ نظرًا إلى أنّ بعضها أحزاب غير مؤدلجة. وقد أعلن جبريل دعمه الانقلاب الذي يقوده حفتر، على الرغم من أنه يملك أكبر كتلة نيابية في المؤتمر الوطني العامّ؛ بمعنى أنّ جبريل يؤيِّد الانقلاب على نفسه، وإذا كان اللوم يُوجَّه إلى الأداء الضعيف للمؤتمر الوطني العامّ، فإنّ كتلته تتحمل الجزء الأكبر من هذا الإخفاق.

د. قبائل نظام القذافي

أعلنت أوساط في قبائل ورشفانة وترهونة وورفلة، وكذلك مدينة زليتن في الغرب الليبي، دعمها الكامل لحفتر ومساندته. ومعروف أنّ الأوساط نفسها دعمت القذافي في الثورة، وأنها قامت بعد مقتله بعدَّة انتفاضات، دعمًا لأنصاره وبقايا نظامه. وأعلنت أجهزة أمنية ليبية، مثل قوات الصاعقة وقوات الدفاع الجوي انضمامها إلى حفتر؛ مما يجعل قوته تحظى بميزات نسبيةٍ، أهمها أنها تضمُّ قوات نظاميةً أكثر من غيرها، وأنّ لها شبكة حلفاء واسعة، وخصوصاً في المنطقة الغربية، فضلًا عن تسليحها الجيد والدعم الخارجي، الذي تتلقاه من قوى إقليمية ودولية.

2. المؤتمر الوطني العامّ وكتائب الثوار

يضمُّ هذا المعسكر طيفًا متنوعًا من القوى، يتقدمها المؤتمر الوطني العامّ والحكومة الانتقالية، ويشمل الكتائب الإسلامية المعتدلة، وجماعة الإخوان المسلمين، ومدن جبل نفوسة، خصوصًا المناطق الأمازيغية منها، إضافةً إلى كتائب مدينة مصراتة. وعلى الرغم من أنّ هذا المعسكر يحظى بالشرعية، إلا أنه يتَّسم ببطء الحركة وضعف التنسيق بين مكوناته.

‌أ. المؤتمر الوطني العامّ

يتكون من 200 عضو منتخبين مباشرةً من الشعب، يمثِّلون السلطة التشريعية، ويشكلون الحكومة المؤقَّتة التي تتولى إدارة البلاد. ويمثّل المؤتمر الجهة الشرعية الوحيدة المنتخبة في ليبيا، وفقًا للإعلان الدستوري، الذي رسم عملية التحول الديمقراطي، ويتكون هذا المؤتمر من ثلاث كُتل سياسية رئيسية، هي الإخوان المسلمون، وتحالف القوى الوطنية، والمستقلون.

ب. غرفة ثوار ليبيا

تضمُّ في عضويتها كتائب راف الله السحاتي، و17 فبراير، وشهداء الزنتان، وعمر المختار، وشهداء ليبيا الحرَّة. وهذه الكتائب الخمس من الكتائب الكبرى التي اضطلعت بدور رئيسي في هزيمة قوات القذافي، وتحرير المنطقة الشرقية، وتحقيق النصر على جبهة سرت، وهي آخر المعارك الكبرى ضدّ قوات القذافي. وكان من المفترض أن تشكِّل تلك الكتائب، التي يغلب على تكوينها العنصر الشاب، النواةَ الأولى لبناء الجيش الليبي. وتوجد بين هذه الكتائب كتيبة واحدة محسوبة على "الإخوان"، هي كتيبة راف الله السحاتي؛ لذلك، كانت أوّل من استهدفها هجوم حفتر الأخير على بنغازي. وتتَّسم هذه الكتائب بإمكاناتها القتالية الكبيرة، وتسليحها الجيد، وبوجود أعداد كبيرة من المقاتلين المنضوين إلى لوائها. وقد توحَّدت تلك الكتائب تحت قيادة زياد بلعم، وهو أحد أهمّ قيادات الثوار، وذو حظوة واحترام كبيرين بين المقاتلين كافَّةً.

ج. جماعة الإخوان المسلمين

يمثّلها حزب العدالة والبناء، وهو الجناح السياسي لجماعة الإخوان المسلمين في ليبيا، وقد أُنشئ على نسق جماعة الإخوان المسلمين في مصر. وهو حزب وطني، بمرجعية إسلامية يتطلع إلى تقديم مشروع إصلاحي في ليبيا، وقد نجح في الحصول على 41 مقعدًا في البرلمان (20.5%) من المقاعد المقسمة إلى 17 مقعدًا من أصل 80 مقعدًا مخصصًا للكتل البرلمانية، و24 مقعدًا من أصل 120 مقعدًا من المقاعد المخصصة للأفراد.

د. ثوار جبل نفوسة
أعلنت مجموعات من ثوار جبل نفوسة، وفي مقدمتها مدينة نالوت، وغريان، ومناطق أمازيغية مثل القلعة ويفرن وجادو، دعمها للمؤتمر الوطني العامّ وللشرعية في مواجهة انقلاب حفتر.

ه. كتائب مصراتة

هي أكثر الكتائب انضباطًا وتنسيقًا في المنطقة الغربية، نظرًا إلى وجود عناصر عسكرية فيها،  تتَّسم بحنكة سياسية، مثل رئيس المجلس العسكري لمصراتة، سالم جحا، فضلًا عن أنّ نشأة هذه الكتائب جاءت بتمويل من تجار مصراتة الأثرياء، الذين موَّلوا شراء السلاح لها؛ لذلك، تخضع هذه الكتائب لمجلس أعيان مصراتة. ويُقدَّر عدد المنتسبين إلى هذا المجلس العسكري بنحو 35 ألفًا، في مدينة عدد سكانها 300 ألف نسمة. وتملك كتائب مدينة مصراتة، فضلًا عن الأسلحة الخفيفة، دبابات يتراوح عددها بين كتيبتي دبابات (26 دبابةً)، ولواء دبابات (39 دبابةً)، ونظرًا إلى امتلاكها مدرعاتٍ، فإنها تُحسب ضمن قوَّة الجيش الوطني الليبي. وقد أعلنت مصراتة رفضها انقلاب حفتر، على الرّغم من أنها دعت إلى ضبط النفس، خشيةَ الدخول في حرب أهلية. لكنّ المجلس المحلي للمدينة أكَّد أنه سيتدخل، إن اقتضت الضرورة ذلك.

و. قوات درع ليبيا في الجنوب

تضمُّ هذه القوات خليطاً من سكان فزان وبرقة، وهي ذات تسليح جيد، وقد أعلنت رفضها انقلاب حفتر، ومساندتها شرعية المؤتمر الوطني.

وبوجهٍ عامٍّ، يحظى معسكر المؤتمر الوطني وحلفاؤه بميزاتٍ نسبيةٍ، أهمها أنه ما زال يحتفظ بالشرعية، ويمتلك أسلحةً ثقيلةً فعالةً، بخاصة لدى قواته الموجودة في منطقة بنغازي. كما أنه يحظى بالدعم المباشر من قوىً موزعة على امتداد الأرض الليبية، بما فيها مصراتة، وجبل نفوسة، والجنوب. يُضاف إلى ذلك أنه يضمُّ مقاتلين كثيرين، يمتلكون خبرات قتاليةً كبيرةً، وخصوصاً في بنغازي والمنطقة الشرقية.

3. القوى الجهادية

يتركز أكثرها في الشرق الليبي، وكذلك في منطقة الجبل الأخضر، وخصوصاً في مدينة درنة. وتقف القوى الجهادية طرفًا ثالثًا في الأزمة؛ فهي تكفِّر الدولة، ولا تؤمن بالديمقراطية، ولا بشرعية المؤتمر الوطني، كما أنها تكفِّر حفتر ومن معه. وأهم مكوناتها:


أ. جماعة أنصار الشريعة

جرى اتهامها بالتورط في قتل السفير الأميركي في بنغازي عام 2012؛ لذلك، صنفتها الإدارة الأميركية منظمةً إرهابيةً. وهي تدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية، لكنها، مع ذلك، تعدُّ أقلَّ تطرفًا مقارنةً بميليشيات درنة.

" يحظى معسكر المؤتمر الوطني وحلفاؤه بميزاتٍ نسبيةٍ، أهمها أنه ما زال يحتفظ بالشرعية، ويمتلك أسلحةً ثقيلةً فعالةً، وبخاصة لدى قواته الموجودة في منطقة بنغازي. كما أنه يحظى بالدعم المباشر من قوىً موزعة على امتداد الأرض الليبية، بما فيها مصراتة، وجبل نفوسة، والجنوب. يُضاف إلى ذلك أنه يضمُّ مقاتلين كثيرين، يمتلكون خبرات قتاليةً كبيرةً، وخصوصًا في بنغازي والمنطقة الشرقية"



ب. ميليشيات درنة

مليشيات جهادية متشدِّدة تُوصف بالتكفيرية، تسيطر على مدينة درنة، وترتبط بتنظيم القاعدة.

4. أطراف على الحياد

أعلنت أطراف محلية حيادها في الصراع الجاري، وهي أطراف ترفض انقلاب حفتر، وتنتقد، في الوقت نفسه، أداء المؤتمر الوطني العامّ، لكنْ، من دون أن تنتقص من شرعيته. وهي تشمل المجلس العسكري لطرابلس، الذي أعلن أنه سيتصدّى لأيّة محاولة للعبث بأمن المدينة؛ وذلك في اجتماع ضمَّ سرايا الثوار كافَّةً. كما أعلنت قوات درع ليبيا المنتشرة بين سرت ومصراتة، على الرّغم من انتقادها أداء المؤتمر، أنها ستؤمن العاصمة طرابلس، وترفض أيَّ انقلاب على السلطة الشرعية في البلاد.

العامل الإقليمي

على الرغم من محاولة إجراء مقاربات بين الوضع في ليبيا وما جرى في مصر، خلال العام الأخير، إلا أنه لا يوجد أيُّ تشابه بين الحالتين المصرية والليبية، سواء على مستوى وجود انقسام سياسي في المجتمع، أو من ناحية دور الجيش، والقوى الأمنية، والدولة العميقة. فهذه العوامل كلُّها غير قائمة في ليبيا؛ إذ إنّ فيها صراعًا بين الإخوان المسلمين وتحالف القوى الوطنية، بزعامة جبريل، مرتبطًا بأداء ضعيف للسلطة الانتقالية، يزيدها سوءًا عدم وجود خريطة طريق للتحول الديمقراطي؛ مما أدَّى إلى انعدام الأمن واستغلال قوىً إقليمية الوضع لإجهاض الثورة، والانقلاب عليها، والإجهاز على المسار الديمقراطي. كما أنه لا وجود لدولة عميقة في ليبيا، ولكن، ثمَّة محاولات لاستدعاء بنىً اجتماعية قبَلية "عميقة" من جهة الثورة المضادة وقوى النظام القديم.

ويتناغم ذلك مع أهداف تحالف القوى الوطنية، الذي يمتلك علاقاتٍ واسعةً بدولة الإمارات العربية ومصر، واللواء خليفة حفتر، الذي لديه علاقات قوية بمصر والولايات المتحدة الأميركية. وربما يراهن هؤلاء على أن تدعم الجزائر معسكر اللواء حفتر في حال تصاعد القتال، خصوصا أنّ الجزائر تخشى تصاعد نفوذ الإسلاميين في المنطقة، وأنها لا تُخفي عداءها لثورات الربيع العربي. ولكن، يصعب تخيل أن تجتمع الجزائر مع النظام الجديد في القاهرة على دعم الأطراف نفسها.

أمَّا القاهرة، فلا يُخفي نظامُها الجديدُ موقفـَه من القوى السياسية المسيطرة على المؤتمر الوطني في ليبيا، إضافةً إلى أطماع تغريه بها دولٌ خليجية، وقد عبَّرت وسائل إعلام مصرية، رسمية وخاصة، عن دعمها حفتر تعبيرًا واضحًا، كما أنّ المشير عبد الفتاح السيسي أعلن، غيرَ مرَّةٍ، ضرورة التصدي للإرهاب المقبل إلى مصر عبر الحدود الليبية، وعن دعمه جهد اللواء حفتر في التصدي لـ "الإرهاب والتطرف".

سيناريوهات تطور الأزمة

يمكن أن تتطور الأزمة الراهنة في ليبيا وفق أحد السيناريوهات التالية:
1. التسوية
يجري التوافق على تنظيم انتخابات برلمانية جديدة، تُشرف عليها حكومة تسيير أعمال. لكنّ تنظيم انتخابات برلمانية في ظلّ حالة الفوضى الأمنية والاستقطاب السياسي الراهن يبدو ضعيفًا؛ ولذلك، لا بدَّ من حوارٍ وطنيٍّ حقيقيٍّ، يسبق الانتخابات، ويضمُّ القوى كلَّها، ماعدا التكفيريين والنظام القديم. ولئن كان هذا الحلّ هو الأمثل، فإنه لا يبدو واقعيًّا في المرحلة الراهنة، خصوصاً أنّ معسكر حفتر يستعجل الحسم العسكري؛ لأنه يدرك أنّ فشل محاولته، هذه المرة، سيشكِّل نهاية مشواره السياسي.

2. الاحتواء

هذا السيناريو هو الأرجح؛ إذ يجري احتواء المواجهات في بنغازي، والحؤول دون انتشارها في اتجاه المنطقة الغربية والوسطى، نظرًا إلى تكلفتها السياسية والعسكرية المرتفعة، وعدم رغبة عدَّة مدن، مثل مصراتة وطرابلس، التورط في القتال. ويبدو واضحًا، الآن، أنّ مدن المنطقة الغربية تحاول تجنُّب الاقتتال في ما بينها، مع وجود مؤشرات على اتجاه للتهدئة بين الزنتان ومصراتة. وفي هذه الحالة، ستبقى المواجهة مقتصرةً على كتائب بنغازي من جهة، وقوات حفتر وحلفائه الفيدراليين من جهة أخرى، ومن الممكن أن تتحول إلى حرب شوارع يُحشد لها من مختلف أنحاء البلاد؛ إذ سيكون في إمكان حفتر الحصول على دعم من حلفائه في غرب ليبيا، إضافةً إلى دعم دول الجوار الإقليمي، كما سيكون في إمكان بنغازي، في المقابل، الاستنجاد بحلفائها في جبل نفوسة، حيث تتمركز كتيبة علي حسن الجابر القوية في البيضاء. لكنّ هذا سيؤدِّي إلى وضعٍ إنسانيٍّ كارثيٍّ في مدينةٍ، يبلغ عدد سكانها نحو مليون نسمة.

3. الحرب الأهلية الشاملة

هذا السيناريو ضعيف، لكنه وارد أيضاً في ظلّ حالة الاحتقان المسيطرة على الوضع في ليبيا، خصوصاً بعد ثلاث سنوات من العنف المناطقي والعمليات الثأرية، سواء كان ذلك بين الثوار وأنصار القذافي، أو بين سكان المناطق، التي دخل بعضها في صراع مسلح مع بعضها الآخر. وإذا حدث القتال على مستوى واسع، فسيشمل، إضافةً إلى بنغازي في الشرق، مصراتة في الوسط، وسيكون عليها مواجهة خصوم أقوياء، مثل بني الوليد، وترهونة، ومدينة زليتن المجاورة، علاوةً على كتائب الزنتان، ولواء القعقاع، وكتائب مدينة سرت. وفي هذه الحالة، ستضطر مصراتة إلى القتال على ثلاثة محاور، حتى لا يجري تطويقها، وسيندلع القتال في الغرب في منطقة جبل نفوسة، تحديدًا بين الزنتان وباقي مدن الجبال مثل نالوت، ويفرن، والقلعة، وغيرها، وسيصعب على الزنتان مواجهة مدن الجبل، مجتمعةً، كما هي الحال بالنسبة إلى مصراتة. وفي حال انزلاق الأمور في هذا الاتجاه، ستكون الحرب مدمرةً، نظرًا إلى أنّ كلّ طرف سيسعى إلى إفناء الآخر.

4. التدخل الخارجي

هذا السيناريو ضعيف، لكنه يبقى ممكنًا؛ كأن تتدخل قوَّة إقليمية، مثل مصر أو الجزائر، بدعمٍ من بعض دول الخليج، لترجيح كفَّة حلفائها. وإن حدث هذا السيناريو، سيزداد الوضع تعقيدًا، مع احتمال انتقال العنف إلى دول الجوار. وعلى الرغم من ذلك، من المرجح أن يكون لمصر دور حيوي ومؤثـّر في دعم حفتر، الذي يحاول جاهدًا بناء تحالف مع نظام القاهرة الجديد، وإقناعه بتوحيد الجهد لمحاربة الإخوان المسلمين.

مهما يكن، تقف ليبيا اليوم على مفترق طريق خطِر، وإن لم يجرِ تدارك الوضع بالحوار، والتوافق الوطني، والاحتكام إلى الإرادة الشعبية، التي ينبغي أن يُعبَّرَ عنها سلميًّا عبر صناديق الاقتراع؛ لإكمال مسيرة التحول الديمقراطي، فعلى الأرجح أنّ البلاد سوف تدخل في حالة نزاع مسلَّح قد يشمل ليبيا كلَّها، أو أجزاءً كبيرةً منها، تترتَّب عليها نتائج، يصبح وصفها بـ "الكارثيَّة" خاليًا من أيِّ معنىً.