تفيد بإيه يا ندم

18 ديسمبر 2014
معظم من آمنوا بالثورة تركوا الحمار ومسكوا في البردعة(Getty)
+ الخط -

لم يكفّ سائق التاكسي طوال الطريق عن محاولة فتح باب النقاش حول الأحوال، وما وصلت إليه البلاد، كنت أحاول أن أكسر الحديث بسرعة شديدة حتى أعود إلى القراءة، وكعادته يحاول فتح باب النقاش ليملأ فراغ وقته ويكسر ملل قيادة السيارة، في كل مرة كان يناديني بـ "يا باشا" أحاول أن أفهمه أن الباشوية انتهت منذ زمن بعيد، وأننا أمام الدولة سواء، مواطنون ليس لنا حقوق، أو لنا حقوق مهدورة، وفي كل مرة كان يعود إلى النداء نفسه، لم يكف عن لعن الظروف التي خرّبت حياته، كان حديثه مليئا بالتناقض، يشتكي من الشرطة التي تغرّمه مخالفات بالجملة، ثم يعود لشكرها، لأنها تحمينا من الإرهاب، يلعن البلد وظروفها ويشتم الشعب بأسره، ثم يقول إننا بلد حضارة عظيمة، وفي كل مرة كنت أحدثه عن الثورة والشهداء يذهب للحديث عن البنزين وقطع الغيار وغلاء الأسعار، نظر إلى الكتاب وسألني عنه، ولم يترك أمامي فرصة للإجابة، وقرأ عنوانه "قيام وانهيار آل مستجاب" ثم أكمل حديثه قائلا: "دي أكيد قصة عيلة من الإقطاعيين أيام الملك، وعبد الناصر خد أملاكهم، دنيا، وأدينا دلوقتي بقينا كلنا بنشحت".

بعد أن انتهت رحلة التاكسي، تفكرت قليلاً في كلمات هذا الرجل، طحنته الحياة طحنا، وخدعته كل الشعارات، وعاش على أمل "الأمان" من الإرهاب، ليس لديه طموحات تذكر، غير لقمة العيش والحياة الكريمة، وحتى هذه ربما سقطت من قائمة أمنياته، كما تتساقط أيام عمره على الأسفلت، حواري معه كان في غاية السذاجة، كان يحدثني عن البنزين، فأحدثه عن الشهيد، يحدثني عن الإرهاب فأتكلم عن الديمقراطية، يناديني بـ"يا باشا" فأبدأ في درس عن الصراع الطبقي والعدل الاجتماعي، ربما هذه أهم مشاكلنا مع الناس، أننا في واد وهم في واد آخر، هم منغمسون في قاع المطحنة، ونحن نفكر في الشعارات التي من المفترض أن يكون هدفها الحياة الكريمة لهؤلاء، بل ونعود لنلقي باللوم عليهم، لأنهم "لا يفهموننا".

لسنا أعظم الشعوب، ومصر ليست أم الدنيا، وفي الوقت ذاته لسنا أغبى الشعوب، نمتلك إرثا تاريخيا عظيما وموقعا جغرافيا وثورة بشرية تؤهلنا أن نكون في مقدمة الدول، ولكننا لا نستخدمها، وها نحن غارقون في الاستبداد، أهم مشاكلنا كجيل آمن بالثورة أننا ننسى كل هذا، ونلعب دورا غبيا، نتراقص على الحبال وندعي أننا فهمنا كل شيء والشعب لم يفهم شيئاً! وكأننا لسنا من الأرض نفسها، الناظر بعين العقل في صفحات التاريخ، سيجد أن معظم الشعوب انطلت عليهم الخدعة ذاتها، فالشعب الألماني مثلا خُدع وسحر بفكرة غاية في السذاجة، نجح هتلر وحكومته وإعلامه أن يزرعوا في عقول الألمان أنهم جنس مختلف عن بقية البشر، ومن حق هذا الجنس أن يغزو الأرض، وعلى أساس هذه الفكرة الغبية قُتل الملايين من البشر. إذا توفرت ظروف الاستبداد وقلة الوعي مع وجود نخبة خائبة تلقي باللوم على الجماهير ولا تقاوم الأفكار الفاسدة ستحدث النتيجة نفسها مع أي شعب، للأسف معظم من آمنوا بالثورة تركوا الحمار ومسكوا في البردعة.

إننا نقع في الخطأ نفسه الذي وقعت فيه أجيال السبعينيات التي عاصرت إرهاصات ثورة ثم انتكست ويئست وورثت اليأس لأجيال بعدها، الخطأ نفسه نكرره الآن، نتبادل اليأس فيما بيننا ونوزعه على الناس بإخلاص، ننسى أن الثورة في الأصل فكرة يدفعها الأمل وتشعلها العاطفة وتحقق أهدافها النخب الواعية، لو أنني حدثت سائق التاكسي عن حقوقه التي سعت الثورة إلى تحقيقها من أجله، لو أنني وفّرت شحنات الغضب وأبدلتها بشحنات من التعاطف مع هذا المسكين أسير الإعلام والاستبداد، لو منحته أملا وحلما جديدا يسعى إليه، ربما كانت الرحلة ستتغير، ولن ننتهي نهاية درامية وأنا أنزل من التاكسي والست أم كلثوم تغني قائلة "تفيد بإيه يا ندم".


*مصر

المساهمون