17 يناير 2017
تغير نوعي في مقاربة الاحتلال إزاء القدس..
لم تتوان دولة الاحتلال الإسرائيلي لحظة واحدة منذ احتلالها الشطر الشرقي من مدينة القدس عام 1967 عن تهويد المدينة المقدسة، في إطار المشروع الكولونيالي الاستيطاني الصهيوني؛ عبر التوسع الاستيطاني، والاستيلاء على الأرض، وحشر الفلسطينيين الباقين في بقع جغرافية محدودة ومتشظية، تقطع المستوطنات أوصالها، وإخضاعهم لبيروقراطية مقيتة تنغص حياتهم اليومية، وقمع أي حراك سياسي وطني، وتغيير أسماء الشوارع والأحياء والأماكن العامة، والامتناع عن توفير المرافق العامة والبنى التحتية الجيدة والمرافق الخدماتية والترفيهية. وكذلك شيطنة صورة المقدسي إعلامياً، ونشر منهاج التدريس الإسرائيلي على حساب الفلسطيني، والتضييق على حرية الحركة، وسحب الهويات، وسياسة الإفقار، وخنق الاقتصاد الفلسطيني وإلحاقه بالاقتصاد الإسرائيلي، والقتل، والاعتقالات، وهدم البيوت، والامتناع الممنهج عن منح رخص بناء، والتضييق على المقدسيين على كل الصعد لتهجير أكبر عدد ممكن منهم، وتعسير مهمة الخروج والدخول من وإلى القدس من باقي مدن الضفة الغربية، من خلال جدار الفصل العنصري والحواجز العسكرية، وحرمان الفلسطينيين من التواصل مع الفلسطينيين في الضفة الغربية، وانعدام الأمان المتعمّد، واعتداءات المستوطنين، ومصادرة الممتلكات والأراضي، وفرض ضرائب باهظة على السكان، ومحالات تقسيم الأقصى، والاستيلاء على المباني في البلدة القديمة وسلواد وتهجير سكانهم، وغيرها من السياسات الوحشية.
منذ لحظاتها الأولى، وسّعت دولة الاحتلال حدود بلدية القدس إلى حوالي 72 كيلومتراً مربعاً، بعد أن كانت مساحة المدينة، بعد التوسعة الأردنية المسبقة، لا تتعدى 6.5 كيلومترات مربعة، للاستيلاء على أكبر قدر ممكن من أراضي الضفة الغربية، وكان قد تقرّر نوع الأراضي التي اقتطعتها دولة الاحتلال وضمتها لحدود بلدية القدس، بناءً على توصيات لجنة عسكرية شُكّلت خصيصًا لهذه الغاية، وطبّق القانون الإسرائيلي عليها. وفي تلك الأثناء، شُكّلت لجنة أخرى هدفت إلى "توطين اليهود" في القدس الشرقية، تجسيدًا لأهداف الاستيطان الإسرائيلية، ولتعزيز وجودها الكولونيالي في القدس المحتلة، ولعزل المدينة عن باقي مناطق الضفة الغربية من خلال أحزمة المستوطنات.
وفي تلك الأثناء، برزت نوايا التهجير المبيتة للمقدسيين لأول مرة بشكلٍ رسميٍ عام 1973، عندما صادقت "اللجنة الإسرائيلية لشؤون القدس" على تحديد نسبة العرب إلى 22% من مجموع سكان مدينة القدس. وهي النسبة التي قلصها صانعو القرار في دولة الاحتلال مرة أخرى عام 1993، حين بدأ التخطيط للقدس الكبرى (المنطقة بين مشارف بيت لحم جنوبًا، ورام الله شمالًا، ومعاليه أدوميم شرقًا، وهي تشكل حوالي 10% من مساحة الضفة الغربية، وتضم مستوطنات مثل غوش عتسيون، ومعاليه أدوميم، وغفعات زئيف إلخ)، بقيادة وزير الإسكان آنذاك، بنيامين بن إليعازر. وكان هدف الخطة إيجاد تواصل بين المستوطنين، لا سيّما التجمعات الاستيطانية خارج حدود القدس، وضمها ومنع التقارب مع العرب، وجعل الفلسطينيين أقليةً عربيةً، بنسبة لا تتجاوز 12% من مجمل قاطني مدينة القدس. (كما ذكر عزمي بشارة في مقالة في "الجزيرة نت"، 17/12/2009).
وبقيت هذه الأضلاع الثلاثة: مصادرة الأرض، الاستيطان، حشر من يتبقى من الفلسطينيين في أقل بقعة جغرافية ممكنة، من دون توفير أدنى مقوّمات المعيشة داخل التجمعات الفلسطينية في القدس المحتلة، الإطار الناظم لسياسات دولة الاحتلال وبلديته إزاء الفلسطينيين في القدس المحتلة طوال العقود الماضية.
مصادرة الأراضي
وفي المجمل، جرّدت السياسات الإسرائيلية الاستعمارية خلال عشرات السنوات الفلسطينيين من 87% من أراضيهم، وتبقى لهم حوالي 13% فقط من الأراضي التي امتلكوها سابقًا، من خلال قانون أملاك الغائبين، والمصادرة للمصلحة العامة أو لأغراض عسكرية، وغيرها من الأساليب الملتوية التي اتبعتها سلطات الاحتلال، على ما يذكر الخبير في شؤون الاستيطان، خليل تكفجي. كما بات يُحيط بالقدس طوقان من المستوطنات، داخلي وخارجي، الداخلي ضمن حدود البلدية، ويشمل عددًا من المستوطنات، أهمها غيلو والتلة الفرنسية وبسغات زئيف وراموت، بالإضافة إلى حرب الاستيلاء على العقارات الفلسطينية في البلدة القديمة وسلوان. أما الخارجي فهو خارج حدود البلدية، ويشمل هار أدار، وأدام، وعلمون، ومعاليه أدوميم وكتلة غوش عتسيون وإفرات وغفعات زئيف، (خالد عايد، "القدس الكبرى في إسار الأمر الواقع الصهيوني". مجلة الدراسات الفلسطينية، مجلد 4، عدد 15، عام 1993)، وهي المستوطنات التي تسعى سلطات الاحتلال إلى ضمها للقدس، تنفيذًا لما يسمى مشروع "القدس الكبرى".
وخلافًا للسياسات التهويدية والإحلالية تجاه الفلسطينيين، تثبت الوقائع أن دولة الاحتلال صبّت جل اهتمامها على القدس الغربية في مختلف الصعد، من بنية تحتية وتعليم وترفيه وخدمات، في حين أهملت سلطات الاحتلال القدس الشرقية، سيّما التجمعات الفلسطينية فيها، لصالح المستوطنات الإسرائيلية. وتفيد التقديرات بأن حوالي 5% فقط من ميزانية بلدية الاحتلال التي تحصّل بلدية الاحتلال حوالى 37% منها من الضرائب التي تفرضها على الفلسطينيين في القدس المحتلة، تصرف على تحسين حياة الفلسطينيين المقدسيين. وحتى بعد إقرار قانون أساس "القدس الموحدة" عاصمة دولة الاحتلال في يوليو/ تموز 1980، وتأكيد اليمين التنقيحي على "وحدة" القدس، وازدياد وتيرة الاستيطان والمصادرة، إلا أن سلطات الاحتلال أبقت مقاربتها إزاء الفلسطينيين في القدس كما هي.
وكان لبناء جدار الضم والفصل العنصري خلال سني انتفاضة الأقصى دلالات عديدة، فهو في حين فصل بين التجمعات الفلسطينية في القدس الشرقية عن محيطها الفلسطيني في الضفة الغربية من ناحية، وعزل أحياء مقدسية تقع ضمن حدود بلدية الاحتلال خارج جدار الأبارتهايد، مثل مخيم شعفاط وعناتا وكفر عقب من ناحية أخرى، إلّا أن الجدار، من ناحية أخرى، وإن عبّر عن رغبةٍ بإبقاء مدينة القدس تحت الهيمنة الإسرائيلية، فقد عزّز من إمكانية إخراج أحياء القدس ما وراء الجدار من حدود البلدية، والتخلي عنها نهائيًا. وعمليًا، همشّت أحياء القدس خلف الجدار بشكل أكبر، عندما عزلت خلف جدار الفصل العنصري، ما أشار إلى بداية العد التنازلي لإخراجها من حدود البلدية، لا سيّما عند الوصول (المأمول!) إلى حل سياسي للقضية الفلسطينية.
ويستدل من هذا المسار الاستعماري أن أحياءً عربية بأكملها قد وضعت في المخيال السياسي الإسرائيلي موضعًا متحرّكًا، باعتبارها رصيدا للمساومة السياسية، بحيث يمكن الاستغناء عنها في أي عملية سلام مستقبلية. ويبدو أن صناع القرار كانوا مدركين تمامًا أن أساليب التضييق لن تهجّر تجمعاتٍ فلسطينيةً بأكملها، وإنما عليهم إعادتها للفلسطينيين، وإخراجها خارج حدود بلدية الاحتلال، من أجل تقليص نسبة الفلسطينيين في القدس المحتلة، والانتهاء من "الخطر الديمغرافي" المزعوم. وفي المقابل، ضم مستوطنات خارج حدود البلدية إلى حدود البلدية من أجل زيادة عدد المستوطنين في القدس المحتلة، حتى يصبحوا الغالبية القصوى. وإن كانت عوامل أيديولوجية وسياسية وادّعاءات أمنية تمنع دولة الاحتلال من الانسحاب من التجمعات الفلسطينية في مدينة القدس، فإن عوامل ديمغرافية وسياسية، وكذلك أيديولوجية منعت فرض الجنسية الإسرائيلية عليهم، أو "دمج" التجمعات التي يقيمون بها مع الشق الغربي من المدينة، أو النهوض بواقعهم المعيشي على المستويات كافة، واحتوائهم من خلال مقاربة اقتصادية اجتماعية ثقافية شاملة.
الخطة الخماسية
وتعد "الخطة الخماسية" التي أقرتها حكومة الاحتلال في عام 2014 أول تعبير فعلي عن بداية تغير مقاربة دولة الاحتلال الخطير للشطر الشرقي من القدس، وتهدف إلى أسرلة السيطرة على الشطر الشرقي من المدينة، والإجهاز على إمكانية تقسيمها في أي عملية سلام مستقبلية، وتحييد المقدسيين عن فعل المقاومة. وبرزت الخطة بعد ازدياد وتيرة عمليات إلقاء الحجارة وغيرها من عمليات المقاومة تجاه سلطات الاحتلال، حيث شكلت لجنة عام 2013 لتصدر عام 2014 خطة تطوير بموجب قرار رقم 1775 بتكلفة 295 مليون شيكل، وهي ذات خلفيات أمنية، وهدفت إلى تعزيز التعليم الإسرائيلي في القدس، وجذب طلاب الدراسات العليا، وشملت منحًا للكلية التحضيرية وترويجًا للدراسة في الجامعة العبرية وتعزيز تعليم اللغة العبرية في المدارس.
وإنْ جاءت الخطة ضمن مقاربةٍ أمنيةٍ جديدةٍ في التعاطي مع المقدسيين، إلا أنها لا تقتصر على الطابع الأمني، وتتضمن بعدًا على صلةٍ وثيقةٍ بتأكيد سيادة الاحتلال على القدس المحتلة. وإن مجرّد الاهتمام بتحييد الفلسطينيين عن الهم الوطني من خلال "إدماجهم" في الفضاء العام الإسرائيلي، تعليميًا وعملًا، يدلل على أن إسرائيل الرسمية وصلت إلى قناعة بأن الفلسطينيين المقدسيين سيبقون ضمن حدود المدينة المقدسة كما رسمها الاحتلال، ولا يمكن التخلص منهم لا بالعنف بسبب قدرتهم على البقاء ومقاومة الاحتلال والصمود، ولا بإخراج الأحياء الفلسطينية خارج حدود البلدية، بسبب معارضة التيار السياسي المهيمن في دولة الاحتلال لإخراج هذه التجمعات، وإعادتها إلى حاضنتها الطبيعية في الضفة الغربية.
وظهرت أولى ثمرات الخطة في مايو/ أيار 2015، عندما أنشئت كلية تحضيرية في الجامعة العبرية، مخصصة لتلائم احتياجات المقدسيين، استقطبت 50 طالبًا/ة في عامها الأول حسب تقارير إعلامية. وكذلك أعلنت وزارة المعارف الإسرائيلية في يناير/ كانون الثاني من العام التالي عن نيتها دفع أموال إضافية للمدارس التي تتبنّى المنهاج الإسرائيلي فقط، في محاولة لتعزيز مكانة المدارس التي تدرس المنهاج الإسرائيلي في مدينة القدس الشرقية، خلافًا لسياسة الإهمال والتهميش المتبعة عقودا، وطالت حتى المدارس التي تدرّس المنهاج الإسرائيلي في القدس الشرقية، وإن بقدرٍ أقل بكثير من المدارس الفلسطينية.
وإكمالًا للمسار نفسه الهادف إلى زيادة نسبة انخراط الفلسطينيين في الجهاز التعليمي الإسرائيلي، أعلنت الجامعة العبرية في يوليو/ تموز 2017 أنها بصدد الاعتراف بشهادات التوجيهي الفلسطينية، تسهيلًا على الطلاب الفلسطينيين المتفوقين في الانخراط بالتعليم الجامعي. ويبدو أن هذه التطورات وثيقة الصلة بتوصيات اللجنة الوزارية بخصوص إدماج المقدسيين في التعليم العالي الإسرائيلي، ومن ثم إدماجهم في سوق العمل الإسرائيلية، وتحييدهم عن العمل الوطني والنضالي الفلسطيني، والتأثير على هويتهم الفلسطينية الوطنية.
وعلى المستوى السياسي، بعد فشل قانون سابق من إكمال مساره التشريعي، وينص على إخراج أحياء عربية من حدود بلدية القدس، سيّما الأحياء المقدسية خارج جدار الفصل العنصري، مرت تعديلات قانون "القدس الموحدة"، في الأول من يناير/ كانون الثاني عام 2018، وتهدف هذه التعديلات إلى قطع الطريق أمام إمكانية التنازل عن أي أحياء من مدينة القدس، ردًا على محاولات أطراف إسرائيلية إخراج الأحياء الآهلة بالفلسطينيين من حدود البلدية، في أول محاولة رسمية لهذا الغرض، بعد أن اختمرت الفكرة ربما لعشرات السنوات في مخيلة أطراف إسرائيلية عديدة. واشترط القانون الجديد أغلبية مطلقة بأكثر من ثمانين نائب (عضو كنيست)، لإخراج أحياء من ضمن حدود بلدية الاحتلال، وأسقط إمكانية القيام باستفتاء شعبي، لإخراج أحياء مقدسية وإعادتها للضفة الغربية.
ومن هذه اللحظة المفصلية، يبدو أن إغلاق الباب رسميًا لأول مرة أمام إمكانية إخراج أحياء فلسطينية من القدس عزّز من قوة العناصر التي لا تريد التخلي عن أي جزءٍ من القدس، وفتح الباب أمام محاولات أسرلة القدس الشرقية بأكملها جديا، والعمل على احتواء سكانها الفلسطينيين فعليا، لأنه بات الخيار الوحيد أمام التيار الرئيسي المهيمن على السياسية الإسرائيلية، فلا يمكن لمعادلة التمسّك بالقدس "الموحدة" عاصمة لدولة الاحتلال، وفي الوقت نفسه، تهميش القدس الشرقية والاقتصار على تنمية المستوطنات الإسرائيلية فيها، وإبقاء التجمّعات الفلسطينية على ما هي عليه، والتغاضي عن الوجود الفلسطيني الأصيل في المدينة المقدّسة. ويُعد وصول إدارة ترامب إلى الحكم في الولايات المتحدة، واعترافها بالقدس عاصمةً لدولة الاحتلال في ديسمبر/ كانون الأول عام 2017، حافزًا آخر جعل الفرصة مواتية بالفعل دوليًا كما هي مهيّأة محليًا، وقد حسمت لصالح الامتناع عن إرجاع عن أي جزءٍ من القدس المحتلة لصالح الفلسطينيين.
ميزانيات للأسرلة
وتجسّدت النقلة النوعية الأخرى في مايو/ أيار من العام نفسه، إذ طرحت خطة تقدم ميزانيات هائلة لأسرلة القدس تقدّر بملياري شيكل لمدة خمسة أعوام، بمعدل 400 مليون شيكل لكل عام جزء مهم من الميزانية موجه لتعزيز المدارس والمنهاج الإسرائيلي، و350 مليون شيكل
لتطوير المناطق المحيطة بالبلدة القديمة، وصيانة الأماكن العامة وتنظيفها والقيام بأنشطة، تطوير العيادات شرق القدس وتسجيل الأراضي. وفي الوقت الذي أعلن فيه عن طرح ميزانياتٍ هائلة لتعزيز التعليم الإسرائيلي في الشطر الشرقي من المدينة، وفيما يدل على خطورة وجدية التعاطي الإسرائيلي المستجد مع التعليم الفلسطيني، أعلن رئيس البلدية السابق، نير بركات، عن بدء العمل على إعداد خطة لإخراج مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا) من القدس، لإحلال المدارس التي تعلم المنهاج الإسرائيلي مكانها.
وتسارعت وتيرة التهويد و"الدمج"، فبعد أقل من شهر على إقرار الميزانيات، أعلن عن فتح تسوية الأراضي في أحواض صور باهر وجنوب عطروت والشيخ جراح وحزما، في محاولة لتثبيت هيمنة الاحتلال على هذه المناطق، وإخضاع سكانها ومصادرة ما يمكن من أراضيهم، وكذلك تعبيرًا عن السيادة الإسرائيلية في المدينة المقدسة. وقبل ذلك بقليل، حاولت دولة الاحتلال فرض ضريبة الأرنونا (ضريبة رسوم الأملاك.. السنوية) على الكنائس. وعلى الرغم من أن المحاولة باءت بالفشل، إلا أنها تدل على المحاولات المتنامية للفتك بنوعٍ من الاستقلالية والاعتماد على الذات التي بنتها التجمعات الفلسطينية في القدس، نتيجة سياسة الإهمال والتمييز الإسرائيلية، ومحاولة تثبيت سيادتها الاستعمارية بشكل نهائي على المدينة المقدسة، واحتواء الفلسطينيين المقدسيين فيها.
وفي خطوة أخرى، تتشابك مع مخططات دولة الاحتلال الرسمية، قطعت الإدارة الأميركية الدعم المقدم للمستشفيات الفلسطينية في القدس الشرقية، وهو ما يساهم في تقويض حالة الاستقلالية النسبية للمجتمع الفلسطيني في مدينة القدس، وتشديد القبضة الاستعمارية الإسرائيلية على كل مفاصل الكيانية الفلسطينية المقدسية، بديلا عن التهميش والإهمال المقصود. ستحوّل هذه الخطوة، وربما غيرها من الخطوات القادمة، المستشفيات الفلسطينية التي تعاني بالأصل من شح في الموارد المالية إلى كيان ضعيف، قد يسهّل ابتزازها من دولة الاحتلال.
وما زيارة رئيس بلدية القدس السابق، نير بركات، مخيم شعفاط في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وبدء طواقم البلدية في تقديم خدمات جمع القمامة والتنظيف، وغيرها من الخدمات، وتوعده بأن البلدية ستقدّم الخدمات التي أخذت "أونروا" على عاتقها تقديمها للاجئين الفلسطينيين في المخيمات منذ عشرات السنوات، إلا دليل إضافي على جدية الاحتلال، هذه المرة، في إحكام قبضته على الأحياء الفلسطينية، سيّما الأحياء المهدّدة سابقًا بالإخراج من نطاق حدود البلدية، مثل مخيم شعفاط، والتي لطالما تجاهلها الاحتلال وتركتها من دون خدمات. وإن جاءت الزيارة الوعود على أعتاب انتخابات لبلدية الاحتلال، فإنها في السياق المذكور قد تعدو كونها مجرّد حملة انتخابية، لا سيّما أنها الزيارة الأولى من نوعها لرئيس بلدية الاحتلال.
تدل المتغيرات العديدة منذ 2014، لا سيّما المتغيرات المتسارعة منذ بداية عام 2018، والتي يمكن تلخيصها بالاهتمام المتزايد بتعزيز مكانة المدارس التي تدرس المنهاج الإسرائيلي على حساب المدارس التي تدرس المنهاج الفلسطيني، وكذلك إخراج مدارس "أونروا" من القدس، والاهتمام بتسوية أراضي القدس، وحسم الصراع حولها، وسد الطريق أمام إخراج أي أحياء عربية من حدود بلدية الاحتلال، وتخصيص ميزانيات لتحسين البنية التحتية والفضاء العام في القدس، وتسهيل انخراط الشباب الفلسطيني في التعليم الجامعي، ومن ثم في سوق العلم، والاهتمام بتعليم اللغة العبرية، وخلق شعور بالانتماء لدولة الاحتلال بين المقدسيين، وإحكام القبضة الأمنية، على أننا في خضم صيرورة تغير في مقاربة الاحتلال تجاه القدس المحتلة، ولربما ستتبع هذه السياسات خطواتٍ أكثر خطورةً في تهويد الأرض، وتحييد الديمغرافيا الفلسطينية من خلال سياسات الهوية.
وإن كان على دولة الاحتلال قانونيًا إدارة شؤون الأرض المحتلة، وتوفير حماية الشعب المحتل واحتياجاته إلى حين حصوله على الاستقلال، فإن ما تقوم به دولة الاستعمار الإسرائيلي هو ضم جزء محتل من أرض فلسطين، بشكل غير قانوني، وتغيير غير قانوني للأمر الواقع، وفرض حقائق على الأرض غير قابلة للعكس مستقبلًا، بما يهدد الهوية والحقوق القومية والسياسية الفلسطينية.
وعلى أية حال، لا يمكن لدولة استعمارية استيطانية إثنية، كالدولة العبرية، تطبيق المساواة بين المستوطنين والشعب الأصلي الباقي على أرضه، لأن وجودها الاستعماري - الاستيطاني يستند إلى مذهبية استعلائية بنيوية، لا يمكن تحقيق المساواة إلا بتحطيم النظام التمييزي التي تقوم عليه. وأقصى ما يمكن أن تقدّمه، وهو ما تقوم به دولة الاحتلال، بذل جهود حثيثة لسلخ الهوية الفلسطينية، والنأي بالفلسطينيين في القدس المحتلة عن الهم الوطني، بما يفتح آفاق النجاح الفردي، وليس السياسي الجمعي القائم على الحق في تقرير المصير.
وفي تلك الأثناء، برزت نوايا التهجير المبيتة للمقدسيين لأول مرة بشكلٍ رسميٍ عام 1973، عندما صادقت "اللجنة الإسرائيلية لشؤون القدس" على تحديد نسبة العرب إلى 22% من مجموع سكان مدينة القدس. وهي النسبة التي قلصها صانعو القرار في دولة الاحتلال مرة أخرى عام 1993، حين بدأ التخطيط للقدس الكبرى (المنطقة بين مشارف بيت لحم جنوبًا، ورام الله شمالًا، ومعاليه أدوميم شرقًا، وهي تشكل حوالي 10% من مساحة الضفة الغربية، وتضم مستوطنات مثل غوش عتسيون، ومعاليه أدوميم، وغفعات زئيف إلخ)، بقيادة وزير الإسكان آنذاك، بنيامين بن إليعازر. وكان هدف الخطة إيجاد تواصل بين المستوطنين، لا سيّما التجمعات الاستيطانية خارج حدود القدس، وضمها ومنع التقارب مع العرب، وجعل الفلسطينيين أقليةً عربيةً، بنسبة لا تتجاوز 12% من مجمل قاطني مدينة القدس. (كما ذكر عزمي بشارة في مقالة في "الجزيرة نت"، 17/12/2009).
وبقيت هذه الأضلاع الثلاثة: مصادرة الأرض، الاستيطان، حشر من يتبقى من الفلسطينيين في أقل بقعة جغرافية ممكنة، من دون توفير أدنى مقوّمات المعيشة داخل التجمعات الفلسطينية في القدس المحتلة، الإطار الناظم لسياسات دولة الاحتلال وبلديته إزاء الفلسطينيين في القدس المحتلة طوال العقود الماضية.
مصادرة الأراضي
وفي المجمل، جرّدت السياسات الإسرائيلية الاستعمارية خلال عشرات السنوات الفلسطينيين من 87% من أراضيهم، وتبقى لهم حوالي 13% فقط من الأراضي التي امتلكوها سابقًا، من خلال قانون أملاك الغائبين، والمصادرة للمصلحة العامة أو لأغراض عسكرية، وغيرها من الأساليب الملتوية التي اتبعتها سلطات الاحتلال، على ما يذكر الخبير في شؤون الاستيطان، خليل تكفجي. كما بات يُحيط بالقدس طوقان من المستوطنات، داخلي وخارجي، الداخلي ضمن حدود البلدية، ويشمل عددًا من المستوطنات، أهمها غيلو والتلة الفرنسية وبسغات زئيف وراموت، بالإضافة إلى حرب الاستيلاء على العقارات الفلسطينية في البلدة القديمة وسلوان. أما الخارجي فهو خارج حدود البلدية، ويشمل هار أدار، وأدام، وعلمون، ومعاليه أدوميم وكتلة غوش عتسيون وإفرات وغفعات زئيف، (خالد عايد، "القدس الكبرى في إسار الأمر الواقع الصهيوني". مجلة الدراسات الفلسطينية، مجلد 4، عدد 15، عام 1993)، وهي المستوطنات التي تسعى سلطات الاحتلال إلى ضمها للقدس، تنفيذًا لما يسمى مشروع "القدس الكبرى".
وخلافًا للسياسات التهويدية والإحلالية تجاه الفلسطينيين، تثبت الوقائع أن دولة الاحتلال صبّت جل اهتمامها على القدس الغربية في مختلف الصعد، من بنية تحتية وتعليم وترفيه وخدمات، في حين أهملت سلطات الاحتلال القدس الشرقية، سيّما التجمعات الفلسطينية فيها، لصالح المستوطنات الإسرائيلية. وتفيد التقديرات بأن حوالي 5% فقط من ميزانية بلدية الاحتلال التي تحصّل بلدية الاحتلال حوالى 37% منها من الضرائب التي تفرضها على الفلسطينيين في القدس المحتلة، تصرف على تحسين حياة الفلسطينيين المقدسيين. وحتى بعد إقرار قانون أساس "القدس الموحدة" عاصمة دولة الاحتلال في يوليو/ تموز 1980، وتأكيد اليمين التنقيحي على "وحدة" القدس، وازدياد وتيرة الاستيطان والمصادرة، إلا أن سلطات الاحتلال أبقت مقاربتها إزاء الفلسطينيين في القدس كما هي.
وكان لبناء جدار الضم والفصل العنصري خلال سني انتفاضة الأقصى دلالات عديدة، فهو في حين فصل بين التجمعات الفلسطينية في القدس الشرقية عن محيطها الفلسطيني في الضفة الغربية من ناحية، وعزل أحياء مقدسية تقع ضمن حدود بلدية الاحتلال خارج جدار الأبارتهايد، مثل مخيم شعفاط وعناتا وكفر عقب من ناحية أخرى، إلّا أن الجدار، من ناحية أخرى، وإن عبّر عن رغبةٍ بإبقاء مدينة القدس تحت الهيمنة الإسرائيلية، فقد عزّز من إمكانية إخراج أحياء القدس ما وراء الجدار من حدود البلدية، والتخلي عنها نهائيًا. وعمليًا، همشّت أحياء القدس خلف الجدار بشكل أكبر، عندما عزلت خلف جدار الفصل العنصري، ما أشار إلى بداية العد التنازلي لإخراجها من حدود البلدية، لا سيّما عند الوصول (المأمول!) إلى حل سياسي للقضية الفلسطينية.
ويستدل من هذا المسار الاستعماري أن أحياءً عربية بأكملها قد وضعت في المخيال السياسي الإسرائيلي موضعًا متحرّكًا، باعتبارها رصيدا للمساومة السياسية، بحيث يمكن الاستغناء عنها في أي عملية سلام مستقبلية. ويبدو أن صناع القرار كانوا مدركين تمامًا أن أساليب التضييق لن تهجّر تجمعاتٍ فلسطينيةً بأكملها، وإنما عليهم إعادتها للفلسطينيين، وإخراجها خارج حدود بلدية الاحتلال، من أجل تقليص نسبة الفلسطينيين في القدس المحتلة، والانتهاء من "الخطر الديمغرافي" المزعوم. وفي المقابل، ضم مستوطنات خارج حدود البلدية إلى حدود البلدية من أجل زيادة عدد المستوطنين في القدس المحتلة، حتى يصبحوا الغالبية القصوى. وإن كانت عوامل أيديولوجية وسياسية وادّعاءات أمنية تمنع دولة الاحتلال من الانسحاب من التجمعات الفلسطينية في مدينة القدس، فإن عوامل ديمغرافية وسياسية، وكذلك أيديولوجية منعت فرض الجنسية الإسرائيلية عليهم، أو "دمج" التجمعات التي يقيمون بها مع الشق الغربي من المدينة، أو النهوض بواقعهم المعيشي على المستويات كافة، واحتوائهم من خلال مقاربة اقتصادية اجتماعية ثقافية شاملة.
الخطة الخماسية
وتعد "الخطة الخماسية" التي أقرتها حكومة الاحتلال في عام 2014 أول تعبير فعلي عن بداية تغير مقاربة دولة الاحتلال الخطير للشطر الشرقي من القدس، وتهدف إلى أسرلة السيطرة على الشطر الشرقي من المدينة، والإجهاز على إمكانية تقسيمها في أي عملية سلام مستقبلية، وتحييد المقدسيين عن فعل المقاومة. وبرزت الخطة بعد ازدياد وتيرة عمليات إلقاء الحجارة وغيرها من عمليات المقاومة تجاه سلطات الاحتلال، حيث شكلت لجنة عام 2013 لتصدر عام 2014 خطة تطوير بموجب قرار رقم 1775 بتكلفة 295 مليون شيكل، وهي ذات خلفيات أمنية، وهدفت إلى تعزيز التعليم الإسرائيلي في القدس، وجذب طلاب الدراسات العليا، وشملت منحًا للكلية التحضيرية وترويجًا للدراسة في الجامعة العبرية وتعزيز تعليم اللغة العبرية في المدارس.
وإنْ جاءت الخطة ضمن مقاربةٍ أمنيةٍ جديدةٍ في التعاطي مع المقدسيين، إلا أنها لا تقتصر على الطابع الأمني، وتتضمن بعدًا على صلةٍ وثيقةٍ بتأكيد سيادة الاحتلال على القدس المحتلة. وإن مجرّد الاهتمام بتحييد الفلسطينيين عن الهم الوطني من خلال "إدماجهم" في الفضاء العام الإسرائيلي، تعليميًا وعملًا، يدلل على أن إسرائيل الرسمية وصلت إلى قناعة بأن الفلسطينيين المقدسيين سيبقون ضمن حدود المدينة المقدسة كما رسمها الاحتلال، ولا يمكن التخلص منهم لا بالعنف بسبب قدرتهم على البقاء ومقاومة الاحتلال والصمود، ولا بإخراج الأحياء الفلسطينية خارج حدود البلدية، بسبب معارضة التيار السياسي المهيمن في دولة الاحتلال لإخراج هذه التجمعات، وإعادتها إلى حاضنتها الطبيعية في الضفة الغربية.
وظهرت أولى ثمرات الخطة في مايو/ أيار 2015، عندما أنشئت كلية تحضيرية في الجامعة العبرية، مخصصة لتلائم احتياجات المقدسيين، استقطبت 50 طالبًا/ة في عامها الأول حسب تقارير إعلامية. وكذلك أعلنت وزارة المعارف الإسرائيلية في يناير/ كانون الثاني من العام التالي عن نيتها دفع أموال إضافية للمدارس التي تتبنّى المنهاج الإسرائيلي فقط، في محاولة لتعزيز مكانة المدارس التي تدرس المنهاج الإسرائيلي في مدينة القدس الشرقية، خلافًا لسياسة الإهمال والتهميش المتبعة عقودا، وطالت حتى المدارس التي تدرّس المنهاج الإسرائيلي في القدس الشرقية، وإن بقدرٍ أقل بكثير من المدارس الفلسطينية.
وإكمالًا للمسار نفسه الهادف إلى زيادة نسبة انخراط الفلسطينيين في الجهاز التعليمي الإسرائيلي، أعلنت الجامعة العبرية في يوليو/ تموز 2017 أنها بصدد الاعتراف بشهادات التوجيهي الفلسطينية، تسهيلًا على الطلاب الفلسطينيين المتفوقين في الانخراط بالتعليم الجامعي. ويبدو أن هذه التطورات وثيقة الصلة بتوصيات اللجنة الوزارية بخصوص إدماج المقدسيين في التعليم العالي الإسرائيلي، ومن ثم إدماجهم في سوق العمل الإسرائيلية، وتحييدهم عن العمل الوطني والنضالي الفلسطيني، والتأثير على هويتهم الفلسطينية الوطنية.
وعلى المستوى السياسي، بعد فشل قانون سابق من إكمال مساره التشريعي، وينص على إخراج أحياء عربية من حدود بلدية القدس، سيّما الأحياء المقدسية خارج جدار الفصل العنصري، مرت تعديلات قانون "القدس الموحدة"، في الأول من يناير/ كانون الثاني عام 2018، وتهدف هذه التعديلات إلى قطع الطريق أمام إمكانية التنازل عن أي أحياء من مدينة القدس، ردًا على محاولات أطراف إسرائيلية إخراج الأحياء الآهلة بالفلسطينيين من حدود البلدية، في أول محاولة رسمية لهذا الغرض، بعد أن اختمرت الفكرة ربما لعشرات السنوات في مخيلة أطراف إسرائيلية عديدة. واشترط القانون الجديد أغلبية مطلقة بأكثر من ثمانين نائب (عضو كنيست)، لإخراج أحياء من ضمن حدود بلدية الاحتلال، وأسقط إمكانية القيام باستفتاء شعبي، لإخراج أحياء مقدسية وإعادتها للضفة الغربية.
ومن هذه اللحظة المفصلية، يبدو أن إغلاق الباب رسميًا لأول مرة أمام إمكانية إخراج أحياء فلسطينية من القدس عزّز من قوة العناصر التي لا تريد التخلي عن أي جزءٍ من القدس، وفتح الباب أمام محاولات أسرلة القدس الشرقية بأكملها جديا، والعمل على احتواء سكانها الفلسطينيين فعليا، لأنه بات الخيار الوحيد أمام التيار الرئيسي المهيمن على السياسية الإسرائيلية، فلا يمكن لمعادلة التمسّك بالقدس "الموحدة" عاصمة لدولة الاحتلال، وفي الوقت نفسه، تهميش القدس الشرقية والاقتصار على تنمية المستوطنات الإسرائيلية فيها، وإبقاء التجمّعات الفلسطينية على ما هي عليه، والتغاضي عن الوجود الفلسطيني الأصيل في المدينة المقدّسة. ويُعد وصول إدارة ترامب إلى الحكم في الولايات المتحدة، واعترافها بالقدس عاصمةً لدولة الاحتلال في ديسمبر/ كانون الأول عام 2017، حافزًا آخر جعل الفرصة مواتية بالفعل دوليًا كما هي مهيّأة محليًا، وقد حسمت لصالح الامتناع عن إرجاع عن أي جزءٍ من القدس المحتلة لصالح الفلسطينيين.
ميزانيات للأسرلة
وتجسّدت النقلة النوعية الأخرى في مايو/ أيار من العام نفسه، إذ طرحت خطة تقدم ميزانيات هائلة لأسرلة القدس تقدّر بملياري شيكل لمدة خمسة أعوام، بمعدل 400 مليون شيكل لكل عام جزء مهم من الميزانية موجه لتعزيز المدارس والمنهاج الإسرائيلي، و350 مليون شيكل
وتسارعت وتيرة التهويد و"الدمج"، فبعد أقل من شهر على إقرار الميزانيات، أعلن عن فتح تسوية الأراضي في أحواض صور باهر وجنوب عطروت والشيخ جراح وحزما، في محاولة لتثبيت هيمنة الاحتلال على هذه المناطق، وإخضاع سكانها ومصادرة ما يمكن من أراضيهم، وكذلك تعبيرًا عن السيادة الإسرائيلية في المدينة المقدسة. وقبل ذلك بقليل، حاولت دولة الاحتلال فرض ضريبة الأرنونا (ضريبة رسوم الأملاك.. السنوية) على الكنائس. وعلى الرغم من أن المحاولة باءت بالفشل، إلا أنها تدل على المحاولات المتنامية للفتك بنوعٍ من الاستقلالية والاعتماد على الذات التي بنتها التجمعات الفلسطينية في القدس، نتيجة سياسة الإهمال والتمييز الإسرائيلية، ومحاولة تثبيت سيادتها الاستعمارية بشكل نهائي على المدينة المقدسة، واحتواء الفلسطينيين المقدسيين فيها.
وفي خطوة أخرى، تتشابك مع مخططات دولة الاحتلال الرسمية، قطعت الإدارة الأميركية الدعم المقدم للمستشفيات الفلسطينية في القدس الشرقية، وهو ما يساهم في تقويض حالة الاستقلالية النسبية للمجتمع الفلسطيني في مدينة القدس، وتشديد القبضة الاستعمارية الإسرائيلية على كل مفاصل الكيانية الفلسطينية المقدسية، بديلا عن التهميش والإهمال المقصود. ستحوّل هذه الخطوة، وربما غيرها من الخطوات القادمة، المستشفيات الفلسطينية التي تعاني بالأصل من شح في الموارد المالية إلى كيان ضعيف، قد يسهّل ابتزازها من دولة الاحتلال.
وما زيارة رئيس بلدية القدس السابق، نير بركات، مخيم شعفاط في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وبدء طواقم البلدية في تقديم خدمات جمع القمامة والتنظيف، وغيرها من الخدمات، وتوعده بأن البلدية ستقدّم الخدمات التي أخذت "أونروا" على عاتقها تقديمها للاجئين الفلسطينيين في المخيمات منذ عشرات السنوات، إلا دليل إضافي على جدية الاحتلال، هذه المرة، في إحكام قبضته على الأحياء الفلسطينية، سيّما الأحياء المهدّدة سابقًا بالإخراج من نطاق حدود البلدية، مثل مخيم شعفاط، والتي لطالما تجاهلها الاحتلال وتركتها من دون خدمات. وإن جاءت الزيارة الوعود على أعتاب انتخابات لبلدية الاحتلال، فإنها في السياق المذكور قد تعدو كونها مجرّد حملة انتخابية، لا سيّما أنها الزيارة الأولى من نوعها لرئيس بلدية الاحتلال.
تدل المتغيرات العديدة منذ 2014، لا سيّما المتغيرات المتسارعة منذ بداية عام 2018، والتي يمكن تلخيصها بالاهتمام المتزايد بتعزيز مكانة المدارس التي تدرس المنهاج الإسرائيلي على حساب المدارس التي تدرس المنهاج الفلسطيني، وكذلك إخراج مدارس "أونروا" من القدس، والاهتمام بتسوية أراضي القدس، وحسم الصراع حولها، وسد الطريق أمام إخراج أي أحياء عربية من حدود بلدية الاحتلال، وتخصيص ميزانيات لتحسين البنية التحتية والفضاء العام في القدس، وتسهيل انخراط الشباب الفلسطيني في التعليم الجامعي، ومن ثم في سوق العلم، والاهتمام بتعليم اللغة العبرية، وخلق شعور بالانتماء لدولة الاحتلال بين المقدسيين، وإحكام القبضة الأمنية، على أننا في خضم صيرورة تغير في مقاربة الاحتلال تجاه القدس المحتلة، ولربما ستتبع هذه السياسات خطواتٍ أكثر خطورةً في تهويد الأرض، وتحييد الديمغرافيا الفلسطينية من خلال سياسات الهوية.
وإن كان على دولة الاحتلال قانونيًا إدارة شؤون الأرض المحتلة، وتوفير حماية الشعب المحتل واحتياجاته إلى حين حصوله على الاستقلال، فإن ما تقوم به دولة الاستعمار الإسرائيلي هو ضم جزء محتل من أرض فلسطين، بشكل غير قانوني، وتغيير غير قانوني للأمر الواقع، وفرض حقائق على الأرض غير قابلة للعكس مستقبلًا، بما يهدد الهوية والحقوق القومية والسياسية الفلسطينية.
وعلى أية حال، لا يمكن لدولة استعمارية استيطانية إثنية، كالدولة العبرية، تطبيق المساواة بين المستوطنين والشعب الأصلي الباقي على أرضه، لأن وجودها الاستعماري - الاستيطاني يستند إلى مذهبية استعلائية بنيوية، لا يمكن تحقيق المساواة إلا بتحطيم النظام التمييزي التي تقوم عليه. وأقصى ما يمكن أن تقدّمه، وهو ما تقوم به دولة الاحتلال، بذل جهود حثيثة لسلخ الهوية الفلسطينية، والنأي بالفلسطينيين في القدس المحتلة عن الهم الوطني، بما يفتح آفاق النجاح الفردي، وليس السياسي الجمعي القائم على الحق في تقرير المصير.