تعليم تونس... منارة تتداعى والإصلاح صعب

16 يوليو 2018
مستقبلهم التعليمي يقلقهم (فتحي بلعيد/ فرانس برس)
+ الخط -
ثمّة شكاوى كثيرة من التعليم التونسي الذي يشهد تدهوراً في البلاد، بحسب ما يؤكد متخصصون تربويون وغيرهم. ويُثار الأمر من جديد غداة الامتحانات الوطنية وقبيل مباريات الدخول إلى الجامعات

يسأل مدرّس تونسي بعد انتهاء الامتحانات وظهور نتائجها: "هل ثمّة من لم تصدمه نتائج مناظرة الدخول إلى الإعداديّات النموذجيّة"؟ ويجيب: "قطعاً لاً"، قبل أن يسأل من جديد: "كم تلميذ اجتاز الاختبارات؟ ما هي نسبة الحاصلين على 15 فما فوق؟ كم عدد البقاع المتناظر عليها؟ (عدد المقاعد الجامعية التي تُجرى المباريات لملئها) هل كنتم تتوقّعون وقد أقررتموها ألا يصل إليها إلا ما دون النصف؟ هل كنتم تتوقّعون ذلك؟ إنْ كنتم كذلك، فَلمَ فعلتم ما أقررتم؟ وإنْ لم تكونوا، أليست لديكم دراسات للتوقّع؟ هل التلميذ التونسيّ رديء إلى الحدّ الذي لا يكون حظّ المتميّز فيه إلا ما نسبته ثلاثة في المائة؟ هل هذه النسبة تعود كلّها إلى رداءة التكوين (نظاماً ومدرّسين ومتفقّدين وإداريّين وأولياء أمور...)؟ هل هذا يعني أنّ نسب الالتحاق بالإعداديّات النموذجيّة في كل السنوات الماضية كانت مزيّفة؟ وهل الإنقاذ يكون مثلما قرّرتم أن يكون"؟

يضيف المدرّس في رسالة مفتوحة إلى وزير التربية نشرها موقع "الصباح" الإلكتروني "نعم للإصلاح.. ولكنّ مدار الإصلاح ليس الاختبار حصراً. الاختبار عنصر جزئيّ وتكميليّ في شبكة معقّدة من المداخل والمقاربات والتصوّرات. وحين تعلّقت همّتكم بالاختبار وحده، جعلتم التلميذ وحده ووحده فقط يدفع الضريبة… السيّد وزير التربية.. الحقّ أحقّ أن يُتّبع. اعدلوا هو أقرب للبيداغوجيا (التربية) وروحيّة التعليم. لا تنفّروا، ولا تجعلوا التلميذ مصيدة وضحيّة. إنْ شئتم أن تُسائلوا أو تعاقبوا فما هذا هو الطريق".

تلخّص هذه الرسالة أصل الداء في النظام التربوي التونسي، إذ إنّ الرسالة لم تعد تعليم الأطفال وتربيتهم، بل صار الامتحان والمعدّل هما الهدف والرسالة بأيّ شكل كان وبأيّ طريقة، مع الدروس الخصوصية التي تستنزف العائلات أو حتى الغش في الامتحانات إذا لزم الأمر. ويؤكد مدير عام الامتحانات الوطنية عمر الولباني أنّ اللجنة الوطنية لإصدار العقوبات في وزارة التربية سوف تنظر قريباً في 950 ملف غش في امتحان البكالوريا (الثانوية العامة) لهذا العام لاتخاذ العقوبات المناسبة التي يمكن أن تصل إلى الرفد النهائي. يُذكر أنّ عمليات الغش لم تستثنِ هذا العام أيّ اختصاص، شعبة الاقتصاد والتصرف (العدد الأكبر) ثمّ الآداب والعلوم التقنية.




تدهور حاصل
لا ينكر وزير التربية حاتم بن سالم تلك المشاكل ويقرّ أنّه مع تراجع النتائج المسجلة في مختلف الامتحانات الوطنية، تأكدت ضرورة إدخال مراجعات استراتيجية على المنظومة التربوية وإجراء تقييم حقيقي وموضوعي للامتحانات خصوصاً البكالوريا. وبالنسبة إلى تلك الامتحانات على سبيل المثال، يوضح بن سالم أنّه سوف يُنظر في إمكانية مراجعة فترة الامتحان وعدد المواد التي يتضمّنها، وذلك مع اتجاه إلى تخفيض أيام الامتحان وتحديد المطلوب باجتياز المواد الأساسية دون سواها على أن يُصار إلى إيجاد صيغة لاجتياز المواد الأخرى على غرار ما يُعمل به في المواد التطبيقية. يضيف بن سالم أنّه من غير المعقول بقاء التلميذ تحت الضغط النفسي الكبير طيلة أسبوعَين للانتهاء من اختبارات الامتحان، لافتاً إلى أنّ الامتحانات الوطنية يجب أن تشمل المواد الأساسية فقط. ويتحدث بن سالم عن ضرورة مراجعة منظومة الإعداديات والمعاهد النموذجية التي انطلقت في بداية تسعينيات القرن الماضي وتقييمها بكلّ موضوعية والتثبت من نتائجها ومردوديتها على المنظومة التربوية وعلى إمكانيات الدولة. ويشدد على ضرورة إجراء تقييم جدي للامتحانات الوطنية بما يعيد للمنظومة التربوية بريقها. ولا يتوانى عن الإقرار بوجود اختلالات في ما يخصّ مستوى مناظرة (مباريات) الدخول إلى الإعداديات النموذجية وشهادة ختم التعليم الأساسي العام، قائلاً إنّه من غير المقبول أن تبلغ نسبة الراسبين نحو 59 في المائة في امتحانات البكالوريا.

يوضح بن سالم أنّ الوزارة كانت قد قررت العودة إلى نظام التقييم الثلاثي في مختلف مراحل التعليم الابتدائي والإعدادي والثانوي ابتداءً من السنة الدراسية المقبلة 2018 - 2019 وتوحيد جداول الأوقات التي يتلقاها التلميذ في رسالة نصية قصيرة أو رسالة بريد إلكتروني. ويشير إلى أنّ التسجيل سوف يكون عن بعد، سواء عبر الهاتف الجوال أو عن طريق الإنترنت بالنسبة إلى تلاميذ المرحلتين الإعدادية والثانوية مع الاستغناء عن مضامين الولادة (البيانات الشخصية) والظروف والطوابع.



ويكمل أنّه سوف يصار في بداية السنة الدراسية المقبلة إلى إرسال بطاقات الإعداد مباشرة إلى ولي الأمر عبر البريد.

تُعَدّ هذه الإجراءات جيدة ومن الممكن أن تحسّن نسبياً الواقع التربوي التونسي، غير أنّها لا تمثّل إصلاحاً في عمق المنظومة التربوية المهترئة التي شهدت تجاذبات واضطرابات عدّة على مدى السنوات الماضية، وهي منظومة لا يرتاح فيها التلميذ ولا المدرّس ولا ولي الأمر. يُذكر أنّ التصنيفات الدولية تراجعت في هذا السياق بصورة مخيفة عمّقتها البطالة التي أفقدت الثقة في جدوى الدراسة من أصلها، وقضت عليها الإضرابات النقابية التي لا تنتهي بسبب الخلافات مع كل الوزراء الذين تعاقبوا على الوزارة وكذلك عدم قدرة الحكومات على الإيفاء بتعهداتها وانقطاع نحو 100 ألف تلميذ عن التعليم سنوياً.

وينتظر التونسيون منذ سنوات أن تفي الأطراف المختلفة بوعود قطعتها لإصلاح المنظومة التربوية، غير أنّها بقيت عالقة في خلافات سياسية وأيديولوجية تتغذى من الداخل بحكم تشظي المشهد التونسي، ومن الخارج بحكم الإملاءات المتعددة.

وكان وزير التربية السابق ناجي جلول قد حذّر قبل نحو عامَين أمام البرلمان، من أنّ فشل مشروع الإصلاح التربوي سوف يؤدي إلى "كارثة وطنية". بالنسبة إلى جلول فإنّ الإصلاح الذي تنجزه الوزارة بالتعاون مع كل التيارات الفكرية والسياسية وبـ"توافق تام" مع النقابات الممثلة للاتحاد العام التونسي للشغل، هو الإصلاح الجوهري الأول في تونس منذ استقلالها. وقد ربط الإصلاح بالضرورة القصوى بعد انهيار المنظومة التربوية في تونس، مستنداً إلى عمليات التقييم الدولية، ومؤكداً أنّ التلميذ التونسي يتأخر ثلاث سنوات من التحصيل المعرفي عن تلاميذ الأنظمة الراقية. وأشار إلى أنّ ثمّة تراجعاً مهولاً في تعلم اللغات الأجنبية وحتى في اللغة العربية التي هي اللغة الأم بالمفترض. لكنّ ذلك الإصلاح لم يرَ النور، والاتفاق مع النقابات لم يتوفّر، بل طالبت تلك النقابات بإقالته ونظمت إضرابات متتالية أربكت المشهد التونسي السياسي والاجتماعي برمته، إلى أن جرى إبعاده في نهاية الأمر، وذهبت كل تلك الأحلام التي تحدّث عنها مع الريح.




الهدوء مطلوب
من جهته، يقول الكاتب العام المساعد للجامعة العامة للتعليم الثانوي، نجيب السلامي، لـ"العربي الجديد"، إنّ "العودة إلى النظام الثلاثي بدلاً من النظام السداسي الحالي وإلى نظام العطل والامتحانات، جرت بالتنسيق بين وزارة التربية والنقابات التربوية وفي إطار لجنة الإصلاح التربوي التي تعمل على مختلف الجوانب وعلى مسائل عدّة أخرى، وقد جرى توقيع محضر اتفاق بين الطرف النقابي والطرف الحكومي". ويوضح السلامي أنّ "النظام السداسي المعتمد سابقاً كان قراراً بطريقة متسرعة، ولو توفرت له الشروط الموضوعية ربّما كان لينجح، لكنّه أتى على عجل من قبل الوزير السابق ناجي جلول، وهو ما جعل تلك التجربة تولد ميتة لأنّه كان يتعيّن تحضير الأرضية الملائمة لها من برامج وبنى تحتية وقاعات تدريس".

يضيف السلامي أنّ "العودة إلى نظام الثلاثي والعطل سوف تحصل، أي وفقاً للنظام المعتمد سابقاً، وقد عُقد اجتماع قبل أيام حول ضبط الخطوط الكبرى للإصلاح التربوي في البلاد". ويشدد على أنّ "أيّ إصلاح في الشأن التربوي مستقبلاً يجب أن يكون بطريقة تشاركية، وليس مجرّد قرارات فردية. ففي حال لم تتشاور وزارة التربية مع النقابات التربوية، فإنّها لن تنجح في أيّ إصلاح لأنّ الشأن التربوي شأن وطني يهمّ الاتحاد العام التونسي للشغل والنقابات وكذلك الوزارة، بالتالي فإنّ الإجراءات والإصلاحات تجري بالتشاور والتفاوض بين الطرفين وهو ما يتيح تحمّل النتائج معاً.

ويشير السلامي إلى أنّ "السنة الدراسية 2017 - 2018 لم تشهد مفاوضات للإصلاح التربوي على الرغم من مطالب النقابات التربوية، والوزارة لم تستجب لدعوات النقابات التربوية وحاولت إصدار قرارات بطريقة فردية. لكن أخيراً وبتدخل من اتحاد نقابات التربية، عادت المفاوضات مجدداً إلى طاولة التشاور وعاد موضوع الإصلاح التربوي إلى موقعه. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ ثمّة مآخذ على بعض القرارات". ويقول: "لو أرادت وزارة التربية الإصلاح، فإنّ عليها التفاعل والتعاون مع الأطراف الأخرى لإصدار أفضل القرارات. فعهد الوزارة الحالية انتهى ولا قرارات تتخذ عن طريق أحادي".



ويشير إلى أنّ "الإصلاحات التي طاولت الشأن التربوي في عام 1956 أفضت إلى نتائج جيدة لأنّها كانت عن طريق التشاور ومن خلال تجربة محمود المسعدي التي ساهمت في بناء تونس الحديثة ومقترحات الاتحاد العام التونسي للشغل الذي قدم لتونس تجربة رائعة". ويتابع أنّ "ثمّة من قد يرى فارقاً زمنياً، لكنّه من غير الممكن استثناء الاتحاد نظراً إلى دوره الوطني المشارك في الإصلاح في حين أنّه موضوع حامٍ وحساس يهم جميع التونسيين".

ويوضح السلامي أنّ "إصلاح المنظومة التربوية يتطلب الهدوء والوقت والعمق والتعاون مع الابتعاد عن التسرّع. الإصلاح لا بدّ من أن يكون عميقاً وجوهرياً وينطلق من المرحلة التحضيرية إلى الابتدائية والثانوية والجامعية". ويشير إلى أنّ "الإصلاح يهمّ المؤسسات التربوية وكيفية تمويلها والمناهج التعليمية ونظم الامتحانات والتوجيه المدرسي والجامعي والبرامج والانتدابات"، مؤكداً أنّ الإصلاحات تتطلب كثيراً من الجهد والوقت وليس من صالح أيّ وزارة العمل بمفردها".

انقسام وارتجال
لكنّ الهدوء الذي يتحدث عنه السلامي غير متوفر، والساحة التونسية منقسمة، والخلافات تقع حول أيّ شيء، ويغيب الإجماع عن كلّ شيء، في حين أنّ الدولة بلا موارد وأوضاع المدارس مزرية وتلاميذ الأرياف يقطعون كيلومترات كثيرة ليصلوا إلى المدرسة. ومن هؤلاء من فاته موعد الامتحان، بينما المدرّسون منهكون. إلى ذلك، تتراجع المدرسة العمومية، مفخرة تونس وبانية مجدها، لتتكاثر المدارس الخاصة وتفتح أبوابها أمام ميسوري الحال فقط، وهو أمر يهدد النسيج المجتمعي التونسي.




في السياق، يقول رئيس لجنة التربية في مجلس نواب الشعب، النائب عن الجبهة الشعبية طارق البراق، لـ"العربي الجديد" إنّ "أحداً لا يقف ضدّ إصلاح منظومة التعليم في تونس، بل هو مطلب الجميع، خصوصاً أفرقاء المعارضة. لكنّ المشكلة تكمن في السياسة الارتجالية للوزراء المتعاقبين على حقيبة التعليم التي جعلت من مستقبل التلميذ حقل تجارب، وزادت عليها سياسة الانفراد بالرأي والقرار والهروب إلى الأمام، وكأنّ إصلاح منظومة التعليم يهمّ الوزارة لوحدها". يضيف أنّ "إصلاح منظومة التعليم بمختلف تفاصيلها، المناهج والنظم التربوية والتوقيت المدرسي والكتاب المدرسي وغيرها، يحتاج إلى تعاون من قبل كل الأطراف لضمان نجاح تنفيذ المخطط الإصلاحي عبر الإصغاء إلى أولياء الأمور والنقابات والمجتمع المدني ونواب الشعب". ويلفت إلى أنّه "لا بد من ترتيب الأولويات في ما يتعلق بالتعليم، وذلك مع وجود نية لدى البعض تتمثل بالأساس في تصفية التعليم العمومي على حساب التعليم الخاص".
المساهمون