تعريب البطريركية المقدسية الأرثوذكيسة... 5 قرون من الهيمنة اليونانية

30 ابريل 2020
أرثوذكس فلسطين يطالبون بحق إدارة كنيستهم (GETTY)
+ الخط -
 
 
انسحب عضو المجلس المركزي الأرثوذكسي في الأراضي المقدسة ورئيس النادي الأرثوذكسي الثقافي العربي جلال برهم، من بلاط كنيسة المهد في مدينة بيت لحم جنوبي الضفة الغربية في السادس من يناير/ كانون الثاني 2020، قبل وصول البطريرك اليوناني للطائفة الأرثوذكسية في القدس وسائر أعمال فلسطين والأردن، كيريوس ثيوفيلوس، رافضاً الإشراف على عرض إحدى الفرق الكشفية احتفالاً بعيد الميلاد بحسب التقويم الشرقي.

وتصدت الأجهزة الأمنية الفلسطينية، لبرهم ومحتجين آخرين من جمعية الدفاع عن الأوقاف المسيحية "حراك الحقيقة" وصادرت هواتفهم الخلوية بعد الهتاف الرافض لمشاركة موكب البطريرك ثيوفيلوس، وفق روايته لـ "العربي الجديد"، وبسبب تكرر هذا المشهد، غاب عن احتفالات العيد كثير من أبناء الطائفة الأرثوذكسية الرافضين للسيطرة اليونانية على بطريركية القدس، كما يؤكد برهم، خاصة أن مؤتمر بيت لحم الوطني أصدر قراراً في أكتوبر/ تشرين الأول 2017، بمقاطعة ثيوفيلوس، الذي يستأثر بإدارة أمور الكنيسة ومعه 120 كاهناً، وهو ما تسبب بإقصاء الفلسطينيين عن بطريركيتهم وكنائسهم ودفع أبناء الطائفة إلى المطالبة بتعريبها واسترداد زمام الأمور في إدارتها، بحسب برهم.
 
البطريرك اليوناني ثيوفيلوس الثالث 
 
 

كيف أضرّ الإقصاء بالعرب؟
 
يقول حنّا عميرة، الرئيس السابق للجنة الرئاسية لشؤون الكنائس العليا في فلسطين (حكومية تُعنى بمتابعة الشؤون الكنسية القانونية والعقارية والمؤسساتية)، أن الكنائس الأرثوذكسية في فلسطين، ترفض أن يتولى إدارتها العرب، كونها ملك للبطريركية اليونانية، مؤكداً لـ"العربي الجديد" أن اللجنة حاولت اتخاذ خطوات فعلية ليتولى الفلسطينيون إدارة كنائسهم التي تقع غالبيتها في القدس المحتلة، لكن الأخيرة لم تستجب.

وتأسّست الكنيسة الأرثوذكسيّة في فلسطين في عام 52 بعد الميلاد، "ومنذ تشكيل أخوية القبر المقدّس اليونانية عام 1534 بواسطة الراهب اليوناني جرمانوس البيلوبونيسي، فإنها لا تقبل في سلك أعضائها أحداً من غير اليونان غرباء اللسان والمكان، وهم يسيطرون على السلطة الروحية والإدارة الكنائسية في الكرسي البطريركي الأورشليمي عقب سلبه من أيادي أبنائه الوطنيين"، بحسب ما جاء في كتاب نبذة في تاريخ الكنيسة الأرثوذكسية وخفايا دور أخوية القبر المقدس، للباحث جرجس عبدالله العيسى.

وأصبح التحاق الفلسطينيين من أبناء الطائفة بسلك الرهبنة صعباً بعد إغلاق المدارس الإكليريكية (يدرس فيها طالبو الكهنوت) والتي كانت قائمة في فلسطين عام 1948، بدلاً من تطويرها وفتح مدارس أخرى، ولم يتبق إلا مدرسة وحيدة في القدس، وهي مدرسة جبل صهيون ولا تستقبل سوى الطلبة اليونانيين، منعاً لأن يرتقي العرب في السلم الإكليريكي وصولا لدرجات ورتب متقدمة كمطران أو بطريرك، وذلك حرصا من أخوية القبر المقدس على إبقاء السيطرة والهيمنة للعنصر اليوناني على البطريركية والكنيسة معا، ما دفع أبناء الطائفة في فلسطين والأردن إلى الرهبنة في دول أخرى، كما ألغت البطريركية نظام الأبرشيات لحصر السلطة في يد البطريرك اليوناني، وفقاً لما جاء في إفادة عضو المجلس المركزي الأرثوذكسي عديّ بجالي، موضحاً أن وجود مطارنة عرب على امتداد الكنيسة لم يكن إلا في حالات استثنائية واسترضائية، عندما يصل الخلاف بين الرعية والرئاسة اليونانية في البطريركية إلى نقطة مغلقة، مع تقييد لدور المطارنة العرب وتأثيرهم بما لا يمس الهيمنة اليونانية، وفي كثير من الأحيان استخدمت آليات عقاب بحقهم كقطع رواتبهم لدى انتقادهم لسياسة البطريركية، وهو ما تكرر مع المطران عطالله حنّا، رئيس أساقفة سبسطية للروم الأرثوذكس، وخريستوفورس عطالله، وهو أول مطران عربي على أبرشية الروم الأرثوذكس في الأردن، والأرشمندريت ميلاتيوس بصل، على إثر تبنيهم مطالب أبناء الرعية من أجل الإصلاح. كما يؤكد بجّالي.

وعلى مدى خمسة قرون اتضح أثر ذلك بإهمال الشؤون الروحية والإدارية للرعية الأرثوذكسية في فلسطين، كما تلاشت أهم مهام البطريريك والكهنة التي تتمثل بالوعظ ورفع مستوى الثقافة الإيمانية، وإصدار الكتب الدينية، بالإضافة إلى إهمال الكنائس والأديرة الأرثوذكسية، وعدم ترميمها وتوسيع مرافقها، بحسب برهم.

ويؤكد بجالي ما ذهب إليه برهم بقوله إن البطريركية بوصفها رأس الهرم يتوجب عليها القيام بدورين رئيسيين، أولهما يقوم على الاهتمام بالحياة الروحية ورفع المستوى الإيماني لدى جموع أبناء الكنيسة، أما دورها الثاني فهو رعائي، والبطريركية بما تمتلك من عقارات وأراض ومرافق وآثارات ومزارات قادرة أن تكون بطريركية غنية، لديها مؤسساتها ومرافقها ومشاريعها الاستثمارية بما يؤهلها أن تقوم بدورها الرعائي التنموي، وتسهم في تحسين أوضاع أبناء الرعية، لكن الواقع غير ذلك تماماً. على حدّ قوله.
 
 
 
 
تسريب أملاك الكنيسة للعدوّ

في أغسطس/ آب عام 2017، قدم 309 أشخاص من بينهم أفراد من الطائفة الأرثوذكسية في فلسطين، ومحامون ومؤسسات إسلامية ومسيحية، شكوى للنائب العام حينها أحمد براك، مستندين إلى وثائق وأدلة، تثبت أن البطريركية الأرثوذكسية ضالعة في تسريب عقارات وأراضٍ إلى مستوطنين وشركات استيطانية، منها 25 وثيقة تكشف البيع التام والنقل الكامل لملكيات في القدس المحتلة، وفق بجالي، ورغم كفاية الأدلة، لم تحول القضية إلى المحكمة. بحسب شكري العابودي، أحد المحامين الذين يتولون الملف.

ويرجع بجالي السبب في عدم البتّ في الشكوى إلى الحساسية البالغة والإحراج الذي يواجهه القضاء الفلسطيني أمام ما يمثله البطريرك من شخصية اعتبارية لها امتداداتها الإقليمية والدولية، رغم ما لاقته القضية من اهتمام من قبل النيابة العامة في البداية، بسبب أهمية ما تكشّفَ من صفقات تسريب وبيع أراضي الكنيسة لصالح الاحتلال وجمعيات الاستيطان  الصهيونية.



وتثبت الوثائق المرفقة في ملف القضية (هـ17/4585)، والتي حصل "العربي الجديد" على بعضها، تسريب أوقاف الكنيسة وبيعها للعدو خلافاً لأحكام المادة 127 من قانون العقوبات الأردني رقم 16 لعام 1960 الساري في الضفة الغربية، والتي تنص على أن "يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن سنتين وبغرامة لا تنقص عن مائة دينار أردني، كل شخص ساكن في المملكة أقدم أو حاول أن يقدم مباشرة أو بواسطة شخص مستعار على صفقة تجارية أو أية صفقة شراء أو بيع أو مقايضة مع أحد رعايا العدو، أو مع شخص ساكن بلاد العدو"، وبسبب هذه التسريبات نشأت القدس الغربية، وفقاً للباحث في شؤون الأوقاف الأرثوذكسية أليف صباغ، الذي يؤكد لـ"العربي الجديد" أن البطاركة ينكرون تسريب أملاك الكنيسة وبيعها أمام الرعية، بينما يستمرون بها خلسة والوثائق تفضحهم.



لكن السلطة الفلسطينية تمتلك الحق القانوني للتدخل في ممارسات البطريركية الأرثوذكسية، ويتوجب عليها ذلك لوقف تسريب أملاكها للإسرائيليين، لجسامة الضرر الذي يتسبب بتغيير الواقع الديموغرافي والجغرافي للمدن الفلسطينية، وفقاً لأستاذ القانون الدولي في جامعة بيرزيت ياسر العموري، مشيراً إلى أن هذا ما يستغله الإسرائيليون لفرض سيطرتهم وبناء المستوطنات، ما يوجب على السلطة الفلسطينية إبطال أي بيع لأراضي الكنيسة.

ويوضح العموري أن حق التصرف بالملكيات ضمنته القوانين المعروفة في كل دول العالم، لكن على أن لا يضر هذا التصرف بالنظام العام، ومنه تسريب الأراضي لدولة الاحتلال وتشييد المستوطنات أو تسهيل بنائها، وهذا يتعارض مع فرض السيادة الفلسطينية على أراضيها، ومعنى ذلك أنه لا يجوز للبطريركية اليونانية البيع.


لكن عميرة يرد على ما سبق أن المسألة تاريخية وليست بيد ثيوفيلوس، كون التسريب حصل قبل 50 عاماً أو أكثر، أي قبل عهدته، مؤكداً أن البطريركية اليونانية اضطرت أن تبيع أراضيَ كان بطاركة سابقون قد قاموا بتأجيرها، مشيراً إلى أن "محاكمة ثيوفيلوس التي يطالب بها المعارضون لسياسة البطريركية غير واقعية"، قائلاً لـ"العربي الجديد" أن الأمر تاريخي ومرير، وأملاك البطريركية باسمها".
 

 


تطهير البطريركية من الفساد

ما نطالب به ليس صراع قوميات، والقول لبجالي والذي يعتبر أن البطريركية يجب أن تكون لأهل الأراضي المقدسة أسوة بكل الدول، مؤكداً أن الرعية تسعى إلى تطهير البطريركية من الفساد، وتابع لـ"العربي الجديد": "نحن دعاة كنيسة مسيحية مقدسة جامعة رسولية، ونطالب برئاسة روحية". متسائلاً عن سبب ملاحقة الأجهزة الأمنية الفلسطينية لأبناء الطائفة الذين يطالبون بحقوقهم وكرامتهم، وقد بدأت الملاحقة الأمنية للمعارضين لثيوفيلوس عام 2017، حيث أُدرجت أسماؤهم على قائمة الممنوعين من دخول كنيسة المهد في عيد 2018، ومنعوا من تنظيم الاحتجاجات قبيل العيد عامي 2018 و2019.

ويبدأ انتزاع السيادة الفلسطينية على الكنيسة وأوقافها الأرثوذكسية بسن قانون فلسطيني يحدد علاقة البطريرك بالرعية وعلاقته بالسلطة الحاكمة، ويحمي أوقاف الكنيسة وعقاراتها ومزاراتها، كما يرى برهم، معتبراً أنه يجب أن يُفسَح المجال أمام الأرثوذكس الوطنيين لإدارة شؤون الكنيسة، ممن لا يحملون صفة دينية خالصة (رجل دين أو كاهن)، بإنشاء مجلس مختلط، يقرر مشاريع الكنيسة الاستثمارية والإشراف على دخلها المالي.

وبموجب قانون "بطريركية الروم الأرثوذكس المقدسية"، يُشرف الأردن على إدارة المقدّسات المسيحية في القدس الشرقية، وبالرغم من صدور قانون بطريركية الروم الأرثوذكس المقدسية رقم 27 عام 1958، لكن لم يتم العمل به وفق برهم، علماً أنه أعطى الأرثوذكس في فلسطين والأردن بعضاً من حقوقهم، لكنه ظل حبراً على ورق، فالفقرة (أ) من البند الأول في المادة 10 منه تنص على أن "يؤلف مجلس مختلط"، يكون له قرارات في الموازنة وأمور الكنيسة الأخرى، كما يستلم الكرسي البطريركي شخص بالانتخاب وفقاً للمادة 22 من ذات القانون، لكن هذا لم يحصل، بسبب غياب الإرادة السياسية الفلسطينية وحتى الأردنية لإصلاح أمر الكنيسة وإعادة السيادة العربية عليها وعلى البطريركية.

 


ويتبع 51% من مسيحيي فلسطين الكنيسة اليونانية الأرثوذكسية، التي تمتلك نحو 18% من مساحة غربي القدس و17% من مساحة القسم الشرقي من المدينة المقدسة، من ضمنها أكبر الكنائس في فلسطين وهما كنيستا القيامة والمهد، بالإضافة لأراض شاسعة وأديرة ومقابر في مدن فلسطينية أخرى بحسب دراسة أجرتها مؤسسة القدس الدولية في بيروت، وصدرت عام 2017 تحت عنوان "ورقة معلومات حول الأرثوذكسية في القدس". وهو ما يثير المخاوف بشأن تسريب هذه الأملاك لدولة الاحتلال ما يسهم في مخطط تهويد القدس عقب تغيير هويتها العربية، وخاصة أن دولة الاحتلال تتبع سياسة تغيير أرقام القسائم والأحواض التي تضع يدها عليها، وفقاً لعضو المجلس الأرثوذكسي بجالي.

دلالات