في ليالي رمضان، يجد العراقيون فرصة للترويح عن أنفسهم عبر جلسات سمر يطلقون عليها اسم "التعاليل"، ومفردها باللهجة الدارجة "تعلولة" أو "تعليلة". هي تعقب صلاة التراويح، ويروي في خلالها كبار السنّ قصص السلاطين العثمانيين وحكايات ألف ليلة وليلة وروايات العصر الذهبي لهارون الرشيد التي تكثر في التراث العراقي.
ويتقمّص كبار السن دور الحكواتي ويسردون مغامرات حي بن يقضان ونوادر جحا وملحِهِ وحِكَم البهلول ومواعظه و"شقاوات" بغداد و"الفتوّة"، فيما يستمع الحاضرون إليها ويناقشون تفاصيلها بكل شغف. ولا تقتصر مجالس التعاليل على هؤلاء الكبار، بل تحضرها جميع الفئات للتعلّم من تجاربهم.
ينطلق الحاج مظفر صاحب (61 عاماً)، مع أصدقائه في مجلسهم الذي يعقدونه يومياً في أحد منازل الأصدقاء، في رحلة عبر الزمن تبدأ بعبارة "كان يا ما كان في سالف العصر والزمان". فيردّ الجالسون من حوله "إيه حجي" (امضِ يا حاج). وبأسلوبه السلس يطعّم حكاياته بملح ونوادر الأدباء والشعراء وأخبار الملوك والأمراء وحكمهم.
يقول الحاج مظفر، لـ"العربي الجديد": "نحن نطرح للشباب تجاربنا وتجارب من سبقونا عبر قصص مشوّقة تراوح ما بين الجد والهزل، حتى لا يشعر الجُلساء بالملل".
اقرأ أيضاً: لا غنى عن لعبة "المحيبس" في رمضان
محمد عمر (34 عاماً)، يحرص على حضور الجلسات ليستمع إلى قصص الماضي. هو يجد في ذلك متعة كبيرة، موضحاً أنّ "مئات القنوات الفضائية متوفّرة اليوم، إلا أننا لا نجد فيها ما يلبي حاجاتنا، وسط الكم الهائل من التحليلات السياسية والأخبار الساخنة من سيارات مفخخة ومعارك وموت". يضيف: "لعلّنا نجد في تلك التعاليل ما نسلّي به أنفسنا من جهة وننمّي قدراتنا المعرفية من جانب آخر".
ويوضح لـ"العربي الجديد"، أن "القصص التي نسمعها من كبار السن خصوصاً، تشمل التسلية في قصص ومغامرات الشعراء كأبي نواس ومجنون ليلى وغيرهما من الشعراء، مع الأمراء والملوك. كذلك تُسرد قصص السندباد بالإضافة إلى الطرائف وأخبار الحمقى والمغفلين ومواعظ الحكماء".
ويميل معظم الجلساء إلى طرائف العصر العباسي ونوادره. كثيرون هم كبار السنّ الذين يحفظونها أو المطلعون على تاريخ ذلك العصر. أما الحاضرون، فيستمعون بلهفة وهم يحدّقون إلى محدّثهم. يحرصون على عدم تفويت أي من تفاصيل القصص.
مازن عثمان (27 عاماً)، أيضاً من هؤلاء الجلساء. يقول لـ"العربي الجديد"، إن "البلاد مشحونة بالقتل والموت والخراب والمعارك التي تنقلها نشرات الأخبار الساخنة على شاشة التلفزيون. وهو ما يجعلنا نحاول إيجاد ما ينقلنا إلى عالم من الخيال، في قصص الأوّلين ونوادرهم". يضيف: "غالباً ما أرغب في سماع طرائف جحا وقصص أبي نواس والسعلوة (كائن خرافيّ) والجن والعفاريت وما إليها".
إلى القصص والحكايات المشوّقة، لا تخلو جلسات التعاليل الرمضانية من الألغاز أو "الحزّورات" كما يسميها العراقيون. ويبدأ الحكواتي بعرض اللغز على الجالسين الذين يتبارون في حلّه. وغالباً ما يكون صعباً، وقد يحتاج أحياناً إلى بضعة أيام، في حين تُرصَد جائزة للفائز.
"عادل حَزّورة" كما يسميه أصدقاؤه، يحفظ مئات الألغاز ويبتدع بعضها بنفسه ليختبر ذكاء أصدقائه. يقول لـ"العربي الجديد"، إن "اللغز أو الحزورة من أجمل ما تتضمنه الجلسات الرمضانية. في صغرنا كنّا نسمع الألغاز من كبار السن ومن جداتنا ونقضي الليل بطوله ونحن نفكر في الحل. وأحياناً لا ندركه إلا بعد أيام أو أسابيع". يضيف أنّ "الحزورات تنطوي أيضاً على حكم ومواعظ ومعلومات جديدة. وهذا ما يؤكّد كلام آبائنا وأجدادنا أنّ المجالس مدارس". بالنسبة إلى المثقفين والأدباء والكتّاب والشعراء، يجد المرء في تلك المجالس ما لا يجده التلميذ في مدرسته ولا الباحث في مكتبته.
عبد الواحد الصالحي، باحث في التراث الشعبي، يقول إنّ "جلسات التعاليل الرمضانية لا تقتصر على بعض الحكايات الخيالية أو التراثية فحسب، لا بل تتعداها إلى إثارة تساؤلات حول قضية معينة واصطحاب المستمع في رحلة إلى عمق التاريخ، كأنه يعيش في تلك الحقبة. وهو بذلك يتعرّف إلى تجارب الأقدمين والآباء والأجداد ويتقن فنّ الاستماع والنقاش والحوار إلى جانب التسلية والترويح عن النفس".
ويوضح الصالحي لـ"العربي الجديد"، أن "لشهر رمضان خصوصيته، لذا فإن هذه الجلسات بالإضافة إلى كونها مدارس في العلم والمعرفة والحكم والمواعظ، تثير شغف المستمعين وتعدّ مصدراً لبعث الفرح في نفوسهم وتسليتهم". في جلساتهم الرمضانية تلك، يحاول العراقيون الابتعاد عن السياسة والصراعات الأمنية وتقلّباتها التي تعصف بالبلاد. هي فرصة ذهبية للترويح عن أنفسهم.
طه جابر، باحث اجتماعي، يوضح لـ"العربي الجديد"، أنّ "لجلسة السمر أو التعلولة خصوصيتها لدى العراقيين بشكل عام وخصوصاً في شهر رمضان، بعد نهار طويل شاق وحار. وهي تعدّ من أبرز العادات والتقاليد العراقية. في الماضي، كان الناس يعتمدون في معرفة ما يدور حولهم، على ما ينقله الحكواتي". ويشير إلى أنّ هذه "الجلسات الرمضانية تحتاج إلى اهتمام من قبل وسائل الإعلام عبر تغطيتها وتسليط الضوء عليها في برامج معينة، وذلك بهدف دفع الشباب وجيل اليوم نحو البحث عن المعرفة والتمسّك بالتراث العريق".
اقرأ أيضاً: العراقيّون يتمسّكون بالمحلبي