تسمح تجربة السفر، والتفاعل مع العالم الخارجي، بالإطلاع على بعض المفاهيم الغائبة عن بلادنا العربية، وكيفية التعامل معها، عن طريق تنميتها إن كانت محمودة، أو استئصالها إن كانت خبيثة، حرصاً على المصلحة العامة وسعياً نحو التقدم والأخذ بأسبابه.
ومن بين الموضوعات التي يبدو أنها لا تشغل بال الكثيرين "عندنا"، كان موضوع تضارب المصالح. وهو مبدأ يكمن في صميم بناء أي مؤسسة تولي بعض الاهتمام للأخلاقيات والحوكمة، سواء كان ذلك في مجال الشركات الخاصة أو في الحكومة أو في المؤسسات الخدمية والمجتمع المدني.
ويقصد بتضارب المصالح وضع يكون فيه للفرد مصالح أو ولاءات متنافسة. ومن أوضح أمثلة ذلك، موظف الحكومة الذي يكون له سلطة في جهة عمله تتعارض مع مصالحه في جهة أخرى، ربما لشغل أحد أفراد عائلته منصباً هاماً في هذه الجهة، فتتداخل الأعمال والمصالح بين الجهتين.
ومنذ عدة أشهر، تقدمت تشارلوت هوغ، والتي لم يمض على ترقيتها لمنصب نائب محافظ بنك أوف إنغلاند (البنك المركزي الإنكليزي) أسبوعان، باستقالتها بعد أقل من نصف ساعة من نشر تقرير لجنة برلمانية معنية باختيار موظفي الخزانة، والجهات المشابهة، في المملكة المتحدة.
وأوضح التقرير إخفاق تشارلوت في الكشف عن معلومات هامة عند انضمامها إلى البنك المركزي البريطاني في عام 2013 كمدير تنفيذي للعمليات. وتمثلت تلك المعلومات في أن شقيقها يشغل منصب المدير المسؤول عن وضع استراتيجية العمل لمجموعة بنك باركليز، وقد أثيرت هذه المسألة مرة أخرى نتيجة لترقيتها إلى منصب نائب المحافظ.
وتنتمي تشارلوت لعائلة عريقة، ممن يطلق عليهم في بريطانيا صفة "ذوي الدماء الزرقاء"، ووالداها من النبلاء، ولهما إنجازات مهنية وسياسية معروفة، فوالدها عضو سابق بالبرلمان، ووالدتها اقتصادية وصحافية، وكانت أول سيدة تترأس واحدة من الشركات المائة التي يتكون منها مؤشر الأسهم الإنكليزية فوتسي.
وتخرجت تشارلوت من مدرسة خاصة للبنات، ودرست الاقتصاد والتاريخ في جامعة أكسفورد البريطانية العريقة، ثم أكملت دراستها في جامعة هارفارد الأميركية.
وقبل نشرها للتقرير، سألت اللجنة تشارلوت عن صلاتها العائلية في مجال الخدمات المالية، ومنها البنوك بالطبع، وعن التدابير التي اتفقت عليها مع البنك المركزي، لتجنب ما يمكن أن تؤدي إليه تلك الصلات من تضارب للمصالح. فأفادت تشارلوت بأن الوحيد الذي ينطبق عليه هذا الوصف هو أخوها، الذي يعمل ضمن مجموعة التخطيط الاستراتيجي في بنك باركليز، وأنه قد عمل لسنوات في هذا المكان، وأفادت بأنها لا تتناقش معه في أمور العمل، وإنما يتحدثان في الأغلب عن أولاده.
وبعد بضعة أيام من مناقشة اللجنة لها، أرسلت تشارلوت رسالة إلى اللجنة نفسها، قالت فيها إنها فحصت سجلات البنك بعد جلسة الاستماع، ووجدت أنها لم تخطر البنك المركزي رسمياً عن منصب شقيقها في بنك باركليز وقت تعيينها قبل أربع سنوات، وقالت إن المرة الأولى التي أشارت فيها رسمياً لمنصبه كانت عندما ذكرته في الاستبيان الذي قدمته إلى اللجنة قبل جلستها الأخيرة.
لكن اللجنة رأت فيما فعلته تشارلوت مخالفة صريحة لنظام السلوكية Code of conduct الذي شاركت هي في إعداده، قبل أن تقدمه بنفسها لمجلس الإدارة لاعتماده في عام 2015، أي بعد دخولها البنك بحوالي عامين. ولم يشفع لتشارلوت أنها، بشهادة اللجنة، قد أدت مهام وظيفتها السابقة بكفاءة عالية لا يمكن إنكارها.
ولم يكن رأي اللجنة متعسفاً تجاه تشارلوت، ولكنها (أي اللجنة) اعتبرت أن الموقف يدل على أن "الكفاءة المهنية لتشارلوت لا ترقى للمعايير العالية جداً المطلوبة للاضطلاع بالمسؤوليات الإضافية لنائب محافظ البنك المسؤول عن الرقابة على الأسواق والبنوك".
وعلى الرغم من كون دور أعضاء اللجنة استشارياً فقط، فقد كان واضحاً أن كوب الحليب قد تعكر صفوه. قدمت تشارلوت استقالتها إلى مارك كارني، محافظ البنك المركزي وتم قبولها بعد أسبوعين فقط من توليها المنصب.
القصة تلقي بالضوء على العديد من الدروس التي يمكن الاستفادة منها، لكن نتوقف أمام بعضها باعتبارها أساسيات التعامل مع مسألة تضارب المصالح.
أولا"، هناك لجنة برلمانية تستجوب أصحاب المناصب العليا في الجهات الحكومية والرقابية، ومنها البنك المركزي، عند اختيارهم. وهذه اللجنة تقوم بدورها بمنتهى الجدية، حتى لو كان المُستَجوب من ذوي الحسب والنسب، أو ممن يُطلق عليهم "عندنا" أهل الثقة، وحتى لو كان من الحالات النادرة جداً التي يتمتع فيها بالخبرة والكفاءة، مع الثقة.
ثانيا"، أنه حتى لو كان رأي اللجنة استشارياً، فإنه يؤخذ به طالما توفرت له الأسانيد المقنعة، والحجج المؤيدة بدلائل منطقية. فالقواعد السلوكية التي انتُقِدَت تشارلوت على مخالفتها تم سنها بعد تعيينها بالبنك المركزي، ولكن اللجنة رأت أن وظيفة تشارلوت يُفترض أن يتمتع شاغلها بما يفرض عليه التصرف بصورة مغايرة لما قامت به. كما افترضت اللجنة فيمن يشغلون تلك الوظائف الهامة أن يتجاوزوا المعايير المطلوبة، لا أن يقفوا عند الحد الأدنى منها فقط.
ثالث تلك الدروس هو أن هذه السيدة لم تكن محافظ البنك، وإنما كانت نائب المحافظ، بما يعني أن لديها مديراً يراقب أعمالها. كما أن قريبها الذي يعمل بأحد البنوك ليس قريبها من الدرجة الأولى، كأن يكون أباها أو زوجها، وإنما هو شقيقها.
وفي النهاية، فإن اللجنة أكدت أنه ليس بالأمر ما يشين تشارلوت، وأنه لم يحدث حتى لحظة الاستجواب أي تعارض للمصالح، كما أن احتمالات حدوثه محدودة جداً، إلا أنها انتقدت تشارلوت، وهو ما أدى بها لتقديم استقالتها، أما في بلادنا العربية العظيمة، فالأمثلة على تضارب المصالح كثيرة.