بالنسبة إلى المجالس البلديّة في بريطانيا، ليس لزاماً عليها تأمين سكن لجميع الناس الذين لا يملكون مأوى. لمن يستغرب الأمر، نعم.. ثمّة مشرّدون في البلاد هنا.
أن تصادف مشرّدين في دولة أوروبية يحلم مئات آلاف الناس ببلوغها، أمر قد يثير الدهشة ويطرح تساؤلات كثيرة. وأن تعجز بريطانيا العظمى عن تأمين أبسط حقوق الإنسان لمواطنيها، مسألة تستحق التوقّف عندها، خصوصاً بعدما وجد تقرير صادر عن اللجنة المختارة للمجتمعات والحكومة المحلية أنّ المشرّدين غالباً ما يلقون معاملة سيّئة من قبل المجالس البلدية. إشارة إلى أنّ التقرير طالب بضرورة توفّر واجب قانوني لتقديم الدعم المعنوي لهؤلاء، فيما لفت نوّاب إلى أنّ حالات التشرّد إلى ازدياد وثمّة حاجة بالتالي إلى خطة حكومية جديدة. وأكّد النوّاب أنّ اللجنة تلقّت براهين عدّة على المعاملة السيّئة لهؤلاء الذين لا مأوى لهم، إذ يُطرَدون بطرق مختلفة ويأتي التعامل معهم أحياناً بتمييز. في المقابل، ردّت مجالس البلديات أنّها في حاجة إلى مزيد من الأموال والنفوذ للتحرّك، وأنّها عاجزة عن معالجة هذه المشكلة وحدها.
"رافقيني إلى البلدية، إن أردتِ أن تعرفي كيف يتعاملون معي". هذا ما قاله لـ "العربي الجديد" ستيفن، وهو شاب إنكليزي في السادسة والعشرين من عمره يحمل شهادة في الرسم والديكور، لكنّه في حاجة إلى أيّ مأوى أو سكن متوفّر لينتهي من حياة التشرّد ويترك الشارع حيث يواجه العديد من المتاعب ويبحث عن عمل.
ستيفن صاحب روح مرحة طيّبة، ولا يتردّد في سرد معاناته بابتسامة. بدأت قصّته مع التشرّد عام 2011، قبل أن ينقطع عنها لعامَين اثنَين قضاهما مع حبيبته وأنجبا معاً طفلهما. لكنّه عندما انفصل عنها، عاد إلى الشارع، إذ لا مكان آخر يلجأ إليه. يشكو ستيفن من أنّ البلدية لا تساعده ومن أنّه يُحظر عليه الاقتراب من مؤسسة سانت مارتن الخيرية التي تقع بالقرب من "ترافالغار سكوير" في وسط لندن. وهو اليوم يحاول تقديم طلب استئناف، حتى يحصل على دعم هذه المؤسسة الخيرية.
يواجه ستيفن متاعب جمّة في الشارع، تهدّد حياته بالخطر. في إحدى المرّات، حاول أحدهم سرقة هاتفه الجوّال أثناء نومه، فنتج عن ذلك عراك أدّى إلى إصابته بجروح في الرأس وكسور في الأضلع. وستيفن "وحيد" في هذا العالم، إذ توفى والداه وهو في الواحدة والعشرين من العمر، في حين لا يتواصل مع أشقائه "لأسباب عائلية"، باستثناء شقيقة واحدة.
قبل ثلاثة أشهر، استقال ستيفن من عمله بعدما طُرد من نزل خاص بالمشرّدين، بسبب دخوله إلى المطبخ من دون جوارب، بالإضافة إلى أسلوبه الصريح في الردّ على أحد الموظفين الذي راح يشرح له معايير النظافة. أمّا تعاطيه الحشيش، فلا يرى ستيفن أنّه يسبّب أيّ مشكلة. وينتقد ستيفن "عمل البلديات التي قد تقدّم المساعدة والمأوى للغرباء والوافدين من بلاد أخرى تطبيقاً للقوانين التي ترعى حقوق الإنسان، لكنّها تعجز عن دعم أبناء البلد أحياناً". ويقول إنّ قانون البلديات يقضي بأن يقيم الشخص في مدينة ما لفترة معيّنة تراوح ما بين خمس وعشر سنوات حتى يحقّ له تقديم طلب سكن فيها. لكنّه عاجز عن ذلك، لأنّه كان كثير التنقّل.
"البلديات تعجز عن دعم أبناء البلد أحياناً" (العربي الجديد) |
ما زال ستيفن يتذكّر يومه الأوّل في الشارع. يخبر: "بعد خروجي من مركز الشرطة، قصدت نزلاً طلب منّي المشرفون عليه أخذ أغراضي. وُضِعت في مركز لإعادة التأهيل، لم ينفعني بشيء إلا بالتعرّف إلى أصدقاء جدد". وعند سؤاله عمّا تعلّمه في المركز، يجيب مبتسماً: "هل أبدو كشخص تعلّم شيئاً ما؟ نحن لا نتعلّم شيئاً هناك"، قبل أن يعرض مرافقة "العربي الجديد" لمقابلة أصدقاء له بالقرب من محطة أنفاق "شيرينغ كروس". من بين هؤلاء صديقه المفضّل الذي أصيب بكدمة في عينه بعد العراك الأخير الذي تورّطا به. لكنّ ستيفن راح يشير إلى حسن سلوك صديقه الذي لا يتناول الكحول، قبل أن يخبر بأنّه جزائريّ.
هناك، في المكان المحدّد، كان يتجمّع أكثر من عشرين مشرّداً من أمثال ستيفن. ما إن رأوا فريق "العربي الجديد" حتى راحوا يصرخون مطالبين بعدم التصوير وبإبعاد الكاميرا. فكانت محاولات على مدى دقائق لتهدئتهم والإجابة عن أسئلتهم، اختفى خلالها ستيفن عن الأنظار. لكنّ مقابلة الشاب الجزائري بدت شبه مستحيلة، إذ راح يطلب مبالغ خيالية لقاء ذلك. وعندما علم أنّه أمام صحافة عربية، انسحب من المشهد.
وكان هؤلاء المشرّدون قد تجمّعوا هناك، في مبنى مؤسسة سانت مارتن الخيرية التي تُعنى بمساعدة الذين لا مأوى لهم، آملين في الحصول على دعم. وكان من السهل الدخول إلى المبنى وطلب مقابلة أحد المسؤولين للتعرّف على الخدمات التي يقدّمونها والمصاعب التي يواجهونها، لكنّ الشابة التي استقبلت "العربي الجديد" لم تبدُ سعيدة بالإعلام وطلبت مراسلتها لاحقاً. بعد أسبوعَين، كان رفض برّرته بعجزهم عن تلبية كلّ طلبات وسائل الإعلام.
تجدر الإشارة إلى أنّ التقرير الصادر عن الحكومة البريطانية في يونيو/ حزيران 2016 كان قد حثّ على دعم المشرّدين وفرض شروط أكثر صرامة على مجالس البلديات وإجبارها على توفير سكن طوارئ لهم لمدّة تصل إلى شهرَين. ورأى التقرير أنّه من غير المقبول تسجيل اختلاف كبير على مستوى الدعم الذي يقدَّم لهؤلاء الأشخاص الضعفاء في أنحاء البلاد. ولفت إلى أنّ حجم المشكلة يدعو إلى وضع خطة عمل جديدة في مختلف الإدارات الحكومية، بالإضافة إلى جعل وزراء البلديات يرصدون تلك التي تفشل في توفير المساعدة والدعم اللازمَين للمشرّدين.
إلى ذلك، حذّر التقرير من غياب الدقّة في الإحصاءات، إذ لم تشمل حالات التشرّد على نطاق واسع، لافتاً إلى أنّ ثمّة مشرّدين لا يبلّغون عن أوضاعهم ويلجؤون إلى السكن عند صديق أو قريب. وقد أثارت الأرقام الرسمية التي نشرتها الحكومة القلق، بسبب زيادة نسبة التشرّد تسعة في المائة بالمقارنة مع الفترة ذاتها من عام 2015، على الرغم من أنّ السلطات المحليّة وافقت على توفير 14 ألفاً و780 سكناً للذين لا مأوى لهم بين الأوّل من يناير/ كانون الثاني 2016 و30 مارس/ آذار من العام نفسه.