تسلل السلطة الفلسطينية في مرمى المقاومة الشعبية

02 ابريل 2015
+ الخط -

لا يخفى الجدل الدائر والمتجدد عن جدوى المقاومة الشعبية "السلمية" ضد الاحتلال الإسرائيلي، إذ باتت نداءات المقاومة الشعبية لا تلقى استحساناً وقبولاً من جزء من الشارع الفلسطيني في الآونة الأخيرة، بل ويقابلها بعضهم بالاستخفاف، في حين يؤمن بعض آخر بها كشكل من أشكال المقاومة. إن هذا الجدل المتجدد، لم يأت محض صدفة، بل هو نتاج سياسات اتبعتها السلطة الفلسطينية لسنوات، حتى أضرت بشكل مقدس من أشكال المقاومة.

ولا بد لنا من وضع تعريف دقيق لمفهوم المقاومة الشعبية "السلمية"، فبالنظر إلى أقوى نماذج المقاومة السلمية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، نموذج غاندي، نجد أن مصطلح "أحمسا" باللغة الآردية لا يعني بدقة "المقاومة السلمية" أو "اللاعنف" كما في لغتنا العربية، وهي كلمات تبدو ضعيفة الأثر في ثقافتنا ولا تلقى تقبل الكثيرين، ربما لأن كلمة "سلمي" قد توحي ببعض الجبن والتخاذل، أو ربما لأنها تذكر الفلسطينيين بـ "الحل السلمي" الذي لا تسأم القيادة الفلسطينية من طرحه باستمرار.

إن أدق ترجمة لهذا المصطلح هو "الكفاح أو الجهاد المدني"، وهو الكفاح الشعبي الذي يمكن لكافة طبقات الشعب الانخراط فيه، فالمقاومة السلمية لا تلجأ لاستخدام السلاح بمختلف أنواعه، وبهذا يمكن لكافة فئات الشعب الإسهام فيه من دون تدريب مسبق أو معرفة باستخدام السلاح. تم تداول مصطلح "المقاومة الشعبية" في فلسطين للإشارة إلى المقاومة السلمية تجاوزاً، على اعتبار أنها تتحقق بمشاركة الشعب الواسعة، رغم أن مصطلح "المقاومة الشعبية" يشمل المقاومة المسلحة والسلمية في نفس الوقت.

لقد كان لحرب غزة الأخيرة، صيف 2014، أثر كبير على جمهور المقاومة في فلسطين، بعد أن أسرت المقاومة المسلحة عقولهم بشكل كبير، خاصة بعد تمكنها من صد العدوان الإسرائيلي على القطاع ومنع توغله البري، وإرداء أكثر من 60 جندياً إسرائيلياً. الأمر نفسه بالنسبة لحربي 2012 و2008. إلا أن الوضع مختلف بالنسبة للضفة الغربية، فقد تمكن الجيش الإسرائيلي بعد اجتياح المدن الفلسطينية عام 2002 من القضاء على المقاومة المسلحة بشكل شبه كامل، وتابع الاحتلال مهمته، بمساعدة أجهزة السلطة الأمنية، بين فترة وأخرى حتى عام 2005، حتى بات سماع أخبار عن عملية مسلحة للمقاومة في الضفة الغربية أمراً شديد الندرة.

ولهذا السبب، وبعد اختفاء النضال المسلح عن الساحة الفلسطينية في الضفة الغربية، اضطر الفلسطينيون إلى تنشيط المقاومة الشعبية "السلمية" من جديد، إذ بدأوا بتنظيم التظاهرات والاحتجاجات الأسبوعية في مختلف القرى، والتي ناضل معظمها ضد بناء الجدار آنذاك، كقرى بدرس ونزلة عيسى وبلعين ونعلين والمعصرة وجيوس وغيرها. معظم تلك القرى لا تزال تتظاهر حتى يومنا هذا، جمعة تلو الأخرى، من دون أن تتوقف التظاهرات لأسبوع واحد مهما كانت الظروف. وتلا ذلك انطلاق حركة مقاطعة إسرائيل العالمية (BDS) عام 2005، وغيرها من الحراكات.

إن تلك الموجة الجديدة من المقاومة الشعبية، والتي عادت عام 2003 في الضفة الغربية لم تكن طفرة مباغتة، فالباحث في تاريخ النضال الفلسطيني، يجد أن المقاومة السلمية هي الطاغية على سنوات النضال الطويلة، ففي عهد الإمبراطورية العثمانية، بدأت حركة الاحتجاجات ضد قانون الأراضي والتملك العثماني عام 1858، وظهرت حركات احتجاجية أخرى في قرى الخضيرة وملبس وغيرها ضد أوائل المستوطنات الصهيونية عام 1908، ثم هبّت ثورة الفلاحين في مدينة العفولة عام 1910 المتمثلة بزراعة الأرض بعد استيلاء الصهاينة عليها، انتقالاً إلى إضراب عام 1936 الأكبر في التاريخ الفلسطيني، والمقاومة عبر استغلال قنوات القانون الإسرائيلي، وانتفاضة الحجر الأولى عام 1987 وثورة الضرائب.

إذا ما نظرنا إلى كافة نماذج المقاومة الشعبية قبل نهاية الانتفاضة الثانية، سنجد أنها كانت تأتي بالتوازي مع تحركات مسلحة، فقد قاوم الفلسطينيون سلمياً ومسلحاً ضد الاحتلال في آن واحد، من دون أن يشعر أحد بـ "سخافة" النموذج الآخر من المقاومة، هبّت الانتفاضة الأولى عام 1987 هبّة سلمية، وقد عرفت بانتفاضة الحجر، وسرعان ما تطورت لتصبح مسلحة، حيث وقعت عمليات وتحركات عسكرية عديدة ضد الاحتلال الإسرائيلي، ولم يذكر أن الفلسطيني الذي قاوم بالحجر قد استاء من زميله المسلح، ولا يذكر أن مقاتلين فلسطينيين استخفوا بالمواجهات الشعبية مع الاحتلال، والتي كان الحجر هو السلاح الأساسي فيها. فما الذي تغير؟

بالنظر إلى تصريحات القيادة الفلسطينية المتمثلة برئيس السلطة الفلسطينية ورئيس منظمة التحرير محمود عباس، نجد أنها تتبنى استراتيجيتين اثنتين، المقاومة الشعبية السلمية والعمل السياسي. كثيرة هي المرات التي ردد فيها عباس مصطلح "المقاومة الشعبية السلمية"، واستشهد بهذا النموذج مراراً وتكراراً في المحافل الدولية، وحتى أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة.

إلا أن عباس يطرح المقاومة الشعبية كخيار وحيد وبديل عن المقاومة المسلحة، والتي أعلن مراراً رفضه القاطع لها، معتبراً أنها تضرّ بالوضع الفلسطيني. بل ووصلت الأمور في الضفة الغربية إلى اعتقال أي خلايا مسلحة قد تكتشفها أجهزة الأمن الفلسطينية، والتي باتت محظورة.

وهنا تتضح لنا المفارقة الكبيرة في ماهية المقاومة الشعبية السلمية التي يدعو إليها عباس في وقتنا الحالي، مقارنة بفترة ما قبل توليه منصبه، فالرئيس عباس يطرحها كبديل عن المقاومة المسلحة، بل ويطرحها كغاية وهدف بحد ذاتها، لا كوسيلة للتحرر. ويحارب من يتجه للخيار المسلح. فماذا نتوقع من الجماهير؟

وقد منعت أجهزة عباس الأمنية مراراً وتكراراً الشبان الفلسطينيين من التوجه إلى الحواجز الإسرائيلية والمستوطنات ونقاط الاحتكاك مع الاحتلال في الضفة الغربية، خاصة خلال فترة حرب غزة الأخيرة في 2014، والتي انتفض خلالها شبان الضفة، وخرجوا لمواجهة الاحتلال بالحجارة، لكن قمع الأجهزة الأمنية الفلسطينية لتظاهراتهم كان عائقاً، بل ووصلت الأمور إلى حد اعتقال بعض المشاركين في تلك التظاهرات.

لا يختلف اثنان أن التحركات السابقة هي تحركات سلمية، فلماذا ووجهت بهذا القمع من السلطة الفلسطينية؟ هل للمقاومة الشعبية السلمية معايير محددة تريدها القيادة الفلسطينية؟ هل لها مكان وزمان محددان؟ أم أنها تحتاج للتنسيق المسبق مع الاحتلال؟

لقد صدق الرئيس الفلسطيني عندما صرح بأنه لن يسمح باندلاع انتفاضة ثالثة قبل عامين، وهنا يتجلى التناقض الكبير في خطاب القيادة الفلسطينية، كما يتبين للعموم أن تلك الدعوات للمقاومة السلمية ما هي إلا تبرير لعدم المقاومة، ولو كانت دعواته جدية حقاً لما اعترضت أجهزته الأمنية طريق المتظاهرين الفلسطينيين مرات عديدة. فالمقاومة السلمية كما يراها هي منع المتظاهرين من الاحتكاك مع جنود الاحتلال في نقاط التماس، وهي اعتقال "مثيري البلبلة"، المقاومة السلمية هي عدم المقاطعة الاقتصادية لكيان الاحتلال، وهي قبول التطبيع، وهي أيضاً الحفاظ على الاتفاقيات وعدم اختراقها والسكوت عن اختراقات الجانب الإسرائيلي لها، المقاومة السلمية هي عدم المقاومة، هي الصمت والخنوع والرضوخ، هكذا أرادت القيادة الفلسطينية للمقاومة الشعبية السلمية أن تكون.

وهنا نكتشف سبب استياء الشارع الفلسطيني من المقاومة السلمية، وعدم الاقتناع بها، فمن الطبيعي أن يرفض الشارع نموذج مقاومةٍ ما يفرض عليه كبديل استراتيجي من قبل قيادته، على الرغم من أن حق تقرير المصير يبيح للشعوب المحتلة استخدام السلاح العنيف، قانونياً، ضد المحتل، فما بالك بالوسائل السلمية؟! على الشعب الفلسطيني أن يعيد حساباته، وألا يستلهم مفهوم المقاومة السلمية من ساسة القيادة الفلسطينية الحاليين الذين أساءوا أشد الإساءة إلى مفاهيم المقاومة والكفاح والنضال، علينا أن ندرك تماماً أن قيادتنا الحالية ترفض المقاومة بكافة أشكالها، بل وتتخفى خلف دعوات المقاومة السلمية الزائفة حفاظاً على ماء الوجه، علينا أن نتعلم من التجربة الفلسطينية في الانتفاضتين وما قبلهما، حينما كانت المقاومة بمختلف أنواعها وسيلة للوصول إلى التحرر، وليست هدفاً بحد ذاتها، وعلينا أن نعلم أنه لا يوجد في العالم كله أمثلة لمقاومة سلمية بحتة أو مسلحة بحتة، لا في الهند في عهد غاندي، ولا في أميركا في عهد مارتن لوثر كنغ، ولا حتى في الثورة الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي، فالمقاومة الشعبية أو المسلحة هي جزء من منظومة مقاومة كاملة لا تتجزأ، هدفها التحرر. وباختصار، القيادة الفلسطينية الحالية وجدت لكبح جماح المقاومة، بشتى أنواعها.


(فلسطين)

المساهمون