تساؤلات نقدية عن أسباب غياب السينما الغنائية العربية

12 أكتوبر 2015
احتفاء بإطلاق DVD لماري بوبنز (Getty)
+ الخط -
خبرٌ منشورٌ في الصحافة السينمائية الغربية مؤخّراً، يُفيد أن "استديو ديزني" في هوليوود يستعدّ للبدء بتحقيق تتمة لمغامرات ماري بوبينز، "المربيّة المنزلية القادرة على الطيران". تتمة هي بمثابة جزء ثانٍ لفيلم يُنجزه البريطاني روبرت ستيفنسن في العام 1964، مأخوذ عن رواية بالعنوان نفسه، للكاتبة الأسترالية باميلا ليندون ترافيرس تصدر في العام 1934.

تجديد أو تجربة عابرة؟

التعريف المقدَّم لـ "ماري بوبينز" يُفيد بأنه "فيلم موسيقيّ"، يحمل الرقم 23 في لائحة أفلام التحريك الطويلة التي تُنتجها "ديزني". علماً أن الاستديو نفسه يُشارك في إنتاج "إنقاذ السيّد بانكس" (2013) لجون لي هانكوك (1956)، الذي يروي حكاية والت ديزني (1901 ـ 1966) الساعي، مطلع ستينيات القرن المنصرم، إلى شراء حقوق سلسلة قصص للأطفال تكون بطلتها "ماري بوبينز"، ما يدفعه إلى خوض مفاوضات مع الكاتبة ترافيرس لن تخلو من حدّة وارتباك، إلى جانب لهوٍ وفكاهة ومُتع، قبل توقيع اتفاق يُجيز له إنتاج "ماري بوبينز" في العام 1964. في الفيلم هذا، تؤدّي إيما تومبسون دور الروائية ترافيرس، ويُقدّم توم هانكس واحداً من أدواره الجميلة، بتأديته شخصية والت ديزني.
إلى جانب الخبر المذكور أعلاه، يتمّ نشر خبرٍ ثان يؤكّد أن المغنية الأميركية نيكي ميناغ تُشارك في إنتاج مسلسل يتناول سيرة حياتها لحساب المحطة التلفزيونية الأميركية "إي. بي. سي. فاميلي"، وتمثّل فيه دورها الحقيقي: "هذه إحدى أكثر المغامرات إثارة التي أقوم بها على الإطلاق"، تقول ميناغ عن مسلسل يروي بعض تفاصيل تاريخها الشخصيّ والحياتيّ والمهنيّ، منذ انتقال عائلتها من "ترينيداد وتوباغو" في إسبانيا إلى الولايات المتحدّة الأميركية بُعيد ولادتها عام 1982. يُضيف الخبر أن التصوير يبدأ في فصل الشتاء 2015 ـ 2016، من دون الإشارة إلى موعد ثابت لبثّه.
اقرأ أيضًا: عرب يمثلون في أفلام أجنبية
خبران متشابهان في مضمونهما العام، لارتباطهما ـ بطريقة أو بأخرى ـ بنوع فني لصناعة صورة بصرية متحرّكة، سينمائياً وتلفزيونياً، تعتمد على الموسيقى والغناء. لكنهما فعلياً مختلفان تماماً أحدهما عن الآخر، إذ إن الأول منتمٍ إلى تقنية الفيلم الموسيقيّ ـ الغنائيّ، في حين أن الثاني يروي سيرة مغنية. مع هذا، فإنهما كافيان لطرح سؤال نقدي: لماذا تغيب صناعة الأعمال الموسيقية ـ الغنائية بشكل شبه كامل عن المشهد الدولي (وبالتالي العربي أيضاً)، في مقابل تنامي العمل في مجال صناعة أفلام ومسلسلات معنية مباشرة بعاملين أساسيين في الغناء والموسيقى والرقص؟ الإمكانيات المختلفة، التي تحتاجها صناعة كهذه، موجودة لدى شركات إنتاج ضخمة، في هوليوود تحديداً. المواضيع كذلك. القادرون على تأدية أدوارٍ كهذه متوفّرون هم أيضاً، وإن بمستوياتهم الأدائية المتفاوتة. التاريخ القديم يكشف أن لهذا النوع من الأعمال "شعبية" كبيرة، وأن المُشاهدين مستعدّون لتمضية وقتٍ في صالة سينمائية أو أمام شاشة تلفزيونية لمتابعة التفاصيل المختلفة لأي حكاية تُطرح عليهم عبر الموسيقى والغناء. أي أن الفيلم الموسيقي ـ الغنائي مُطالب بسرد حكايته عبر الغناء والرقص، كأن يكون الغناء جزءاً أساسياً من الحوار والسرد الدرامي ـ الكوميدي (إن لم يكن هو الحوار كلّه)، وكأن يكون الرقص، عبر لوحات استعراضية متكاملة، امتداداً طبيعياً وجمالياً وفنياً للسياق الحكائيّ. ففي تعريف نقدي لـ "الفيلم الموسيقيّ"، يُحدَّد هذا الأخير بأنه "نوع سينمائي يتضمّن موسيقى وأغنيات ورقص". يُضيف التحديد أنه يُمكن مزجه بـ "الكوميديا الموسيقية"، وهي نوع من الاشتغال المسرحي، بإضافة ثلاثية الموسيقى والأغنيات والرقص عليه.

استعادة ماضٍ

في "ماري بوبينز"، تُقدّم البريطانية جولي أندروز دور المربيّة التي تطير، وذلك قبل عام واحد فقط على مُشاركتها في البطولة التمثيلية النسائية لـ "صوت الموسيقى" لروبيرت وايز، أول فيلم يحتلّ "المرتبة الأولى" في لائحة الأعمال الأكثر نجاحاً تجارياً على مستوى الفيلم الموسيقيّ الغنائيّ، بتحقيقه 911 مليوناً و458 ألف دولار أميركي في أميركا الشمالية فقط (من دون ذكر الأرقام المتعلّقة بالإيرادات الدولية، وبالأرباح الناتجة من بيع نسخ VHS وDVD لاحقاً، وبحقوق البثّ التلفزيوني)، علماً أنه يتبوّأ المرتبة الثالثة في قائمة الأفلام الأكثر تحقيقاً للإيرادات في تاريخ الفن السابع، بعد "ذهب مع الريح" (1939) و"حرب النجوم" (1977).
اقرأ أيضًا: ملاحظات نقدية عامة عن السنيد في صناعة السينما العربية
بعيداً عن لغة الأرقام وتقنيات العمل الموسيقيّ ـ الغنائيّ سينمائياً وتلفزيونياً، يُطرح سؤال غياب هذا النوع الفني من المشهد الإنتاجي العربي تحديداً، المعروف سابقاً بتقديمه عناوين سينمائية متميّزة بلغتها البصرية المتواضعة، وببساطتها في مقاربة حكايات إنسانية ذات أسئلة متعلّقة بالحياة والحبّ وأساليب النجاح، مروراً بالنمائم والمساعي "الشريرة" إلى منع التواصل بين العشّاق مثلاً. أفلام غنائية عربية عديدة تُساهم في بلورة جماهيرية مطربين ومطربات، وفي تفعيل تواصل مباشر بينهم وبين محبّيهم، وفي آليات فنية مختلفة لسرد حكايات مستلّة من وقائع العيش اليومي. غياب هذا النوع يأتي بعد أعوام مديدة من حركة إنتاجية فاعلة ومؤثّرة في صناعة الصورة البصرية العربية، خصوصاً في مصر، علماً أن مغنيات لبنانيات عديدات يهاجرن إلى القاهرة، ويشتغلن في سوق الفن الغنائيّ (وقبل هذا، في مهنة الإنتاج السينمائيّ)، ويُشاركن في "بطولة" أفلام منتمية إلى هذا النوع البصريّ. منذ ثلاثينيات القرن المنصرم، تُصنع أفلامٌ كهذه، فإذا بمغنين ومغنيات لا يكتفون بالتمثيل والغناء فقط، بل يساهمون في إنتاج كامل أو إنتاج مشترك لأعمال يريدونها تجسيداً بصرياً لحضورهم أمام جمهورٍ يعتاد الاستماع إلى أصواتهم عبر الأثير. الظهور التلفزيوني حكرٌ على لقاءات أو سهرات تلفزيونية لن تبلغ المرتبة الإبداعية للحفلات التي يُقدّم فيها الفنانون هؤلاء أعمالهم الغنائية على خشبات المسارح أو في ملاهٍ ليلية مخصّصة بسهرات كهذه. لذا، يحتاج هؤلاء جميعهم إلى مُرادفٍ بصري للسماع الصوتيّ، كي تكتمل العلاقة بينهم وبين جمهورهم الراغب في التعرّف إليهم بعيونه لا بآذانه فقط.
لن يكون هذا سبباً وحيداً لمشاركة مغنين ومغنيات في التمثيل السينمائي. فصناعة النوع هذا تنمو في العالم، وتستقطب مشاهدين كثيرين، وترتفع أرقام الإيرادات في خزائن المنتجين. وكأي نوع سينمائي، يجد الفيلم الغنائي طريقه إلى القلوب والعقول معاً، بسرعة متساوية وسرعة وصول اللحن والنبرة والأداء الغنائي إلى محبي الغناء. وكأي نوع سينمائي أيضاً، يجد الفيلم الغنائي نفسه "طيّ النسيان" كصناعة متكاملة، كنوعيّ الـ "ويسترن" والـ "كاراتيه" مثلاً (هناك أفلام منتمية إلى الأنواع هذه، لكنها مُنتجة بشكل فردي، وليس ضمن إطار صناعي ـ جمالي ـ فني متكامل).

غياب.. تغييب..

أما أسباب الغياب فعديدة، لعلّ أبرزها انتفاء الحاجة إلى صورة توطّد العلاقة بين الفنان وجمهوره، إثر ظهور صناعة جديدة معروفة باسم "فيديو كليب"، التي تبلغ مرتبة راقية في بداياتها، عبر تفنّن جمالي في صناعة بصرية عربية، قبل هبوطٍ حادّ وسريع في تقنية اشتغالاته، التي تُفرِّغه من كل مضمونٍ إبداعي جميل. بالإضافة إلى هذا، يُمكن القول إن سهولة التواصل البصريّ ـ السمعيّ بفضل التكنولوجيا الحديثة، وانتشار أنماط مختلفة من وسائل التواصل، يُساهمان فعلياً في التغاضي - إن لم يكن "التناسي"- عن الفيلم الغنائيّ، وفي عدم الشعور بحاجة إليه، والاستعاضة عنه بمشاهدة الأشرطة المُصوَّرة للحفلات الضخمة التي يُحييها "نجوم" الفن والطرب المنتمون إلى ثقافة الاستهلاك التجاريّ منذ نهاية القرن الـ 20 تحديداً، وهي أشرطة موجودة في وسائل تواصل اجتماعي مختلفة، ناهيك بالهوس الجماعي بأشرطة "فيديو كليب"، وإن تخلو غالبيتها الساحقة من كلّ جمالية فنية، يحاول مخرجون شباب عرب قليلون جداً تحصينها من سطوة التفريغ والتسطيح والاستهلاك التجاري الهابط، من دون جدوى.

لا شكّ في أن ارتفاع تكاليف إنتاج أفلام غنائية، يُفترض بها أن تحتوي على لوحات راقصة (استعراضية) أيضاً، يؤدّي إلى صرف النظر الإنتاجي عنها، خصوصاً أن منتجين ومخرجين عرباً يقولون إن "انفضاض" المشاهدين عن النوع السينمائيّ هذا سببٌ وجيهٌ لعدم خوض التجربة إنتاجياً. المحاولات العربية القليلة التي تُقام في الأعوام الفائتة دليلٌ على هذا. في الغرب، يرى بعض النقّاد أن تنامي ظاهرة الأفلام الوثائقية السينمائية المعنية مباشرة بسرد فني جمالي لافت للانتباه لتفاصيل من السِيَر الذاتية والمهنية لمغنين ومغنيات، سببٌ آخر يدفع بمحبّي هذا الفنان أو ذاك إلى الانصراف عن أفلام غنائية، والاهتمام أكثر بما هو أكثر ارتباطاً به. أما في العالم العربي، فللسياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ، بالراهن المزري لها، دورٌ في غياب أنماط سينمائية عديدة، وتنامي "هوس" ما ـ ولو مؤقت ـ بكل تسطيح ممكن، خصوصاً على مستوى الكوميديا، قبل استعادة سينمائيين عرب شباب زمام الأمور، والنهوض بصناعة فيلمية تخاطب الوعي والعقل والانفعال، ولا تهتمّ بغرائز عابرة.
التساؤلات الآنفة الذكر مجرّد ملاحظات عامّة يُفترض بها أن تثير نقاشاً نقدياً أكبر وأعمق، وأن تنفتح على أنماط سينمائية أخرى لم يعد لها وجود حقيقي وفاعل في المشهد السينمائي العربي والدولي معاً.

(كاتب لبناني)
المساهمون