في بيئتي الريفية المتاخمة للبادية السورية، ارتبكتْ طفولتي وأنا أسمع البدو يطلقون على الخيل أسماء نساء. كنت أراقب أوضاع المرأة عند البدو وأرى أنها على بؤسها أفضل مما هي لدى نساء قريتي. التصنيفات التي سبق وسمعتها عن البداوة والريف والحضر لم تكن مقنعة أو لم تكن متَّسقة. لاحقاً ارتبك شبابي في المدن وأنا أرى أصحاب السيارات يتعاملون مع سياراتهم بوصفها نساءً. كما لو أن الفرس، بالنسبة لهم، معادلٌ موضوعيّ أو فنيّ للمرأة، وبالتالي فإن امتطاء الفرس ينطوي على دلالة جنسية لا تفوت مستقرئاً، ثم نابت السيارة عن الفرس، فصرنا نقرأ عبارات مسجّلة على خلفية السيارات من مثل: "لا تلحقني مخطوبة"، أو "محبوبة عماد"، أو "يا خيَّال الزرقا". صاحب مثل هذه السيارة، أو العبارة الأخيرة، لم يستطع ردم الهوّة ما بين الفرَس والسيارة، إذ بقيت السيارة في مخياله فرساً، ويريدها فرساً زرقاء حتى لو كان لون سيارته نيليّاً. أغنية سميرة توفيق "يا خيّال الزرقا" ما زالت تتحكم بأحلامه ورغباته وحنينه في العودة إلى مرحلة الخيل والفروسية. إذاً فلتكن سيارته فرساً. ذلك يعني أنه يرى مثاله، أو لأقل أحلامه وطموحاته، في الماضي لا في المستقبل.
في الحقيقة إن قسماً واسعاً من مجتمعنا يرى ما يرى صاحب تلك السيّارة. تعرّفتُ لاحقاً على تفاصيل كثيرة من حياة البدو في سورية. ترى معظم البدو، لا كلّهم، يتباهون بأن لديهم "بيك آب" ماركة كذا، وقدّاحة رونسون، وسجائر كِنْت أو مارلبورو، وتراكتور يساعدهم في كثير من الخدمات. كلها نتاج حداثة عفريتة قادرة على إغرائنا باستهلاك أحدث منتجات الحضارة. إذاً هي حداثة الاستهلاك وليس الإنتاج، أعني حداثة السلوك اليومي وليس العقل أو التفكير. السلوك عادةً ما يكون استهلاكيّاً، والتفكير عادةً ما يكون إنتاجيّاً. وما ينطبق على البدو في هذا الجانب ينطبق بدرجة أو بأخرى على شرائح اجتماعية متعددة مع اختلاف تفاصيل الاستهلاك ومفرداته أو مواده.
اقرأ أيضًا: أغوص لأتلمس كل صدفة
لاحقاً عشتُ في دمشق وسمعتُ مجازات كثيرة عن الأنوثة في أماكن واختصاصات كثيرة في دمشق. في سوق الحميدية مثلاً، أو في أسواق الخضار يمكن لك أن تسمع من أحد البائعين أفضح ما يمكن سماعه من غزل موارب أو مبطّن يوجهه بائع لامرأة تمرّ بقربه، أو لجذب شارٍ أو شارية عابرين: "أصابع الببّو يا خيار"، "مستوية وخالصة"، "لا تشلّحني بشلح لحالي". هذه ثقافة بيع وشراء، فهل هناك ثقافة أكثر واقعية أو أكثر عمقاً وحضوراً بالمعنى العملي أو الملموس؟!
القاموس اللفظي اليومي لحياة البشر هو المؤشّر الأقرب لطبيعة تفكيرهم وهواجسهم وأحلامهم. لست في ميدان الإدانة أو الرفض بل في ميدان محاولة فهم العقل الذي يسترعي ذلك القاموس. والعقل ليس دائماً حكيماً، وأنا لا أستثني نفسي حين أطرح ذلك. أصارحكم أننا، أو لأقل إنني كسجين سابق لبضع سنوات قصرت أم طالت، كنت أبحث في السجن عن كل معنى يقبل التذكير والتأنيث، لكي أستخدم صيغته المؤنّثة. كنت مثلًا أستخدم لفظة "النافذة" بدلاً من لفظة الشبّاك، ولفظة ليلة بدلاً من ليل، ولفظة رقبة بدلاً من عنق، ولفظة عصفورة بدلاً من عصفور، ولفظة فرس بدلاً من حصان. ولكن في السجن، في تلك الجزيرة المعزولة والملعونة والخالية من النساء، يصبح ما هو غائب أكثر حضوراً، وأعتقد أن الأمر ينطبق من جهة مقابلة على النساء السجينات في جزيرتهنَّ الخالية من الرجال.
هل هو عقلٌ شرقيٌّ متفرِّد ومتوغِّل في شؤونه، أم أن الأمر عام لدى جميع الشعوب وعاديّ وقابل للمقايسة؟!
لا شيء يقبل القياس إلا ما يُقاس عليه.
بعض البدو، حين يوافقون على تزويج ابنتهم من أحد، يقولون له أو لأهله: أعطيناكم مهرة أصيلة تأكل بيدها لا بفمها.
وهناك من يقولون: المرأة من "رجَّالها" والفرس من خيَّالها. هذا الاقتران أو المرادفة بين المرأة ورجلها وبين الفرس وخيَّالها ليس اعتباطاً ولا مصادفة، بل هو لغة بالغة الدلالة على مضمَرات أشدّ وضوحاً مما لو كانت مباشرة أو صريحة.
وسمعتُ كثيراً أن فلانة أصيلة؛ هل ذلك يُضمِر في الخيال أنها فرس جيدة؟ وسمعت أيضاً أن فلاناً أصيل، هل ذلك يُضمِر في الخيال أنه حصان جيد؟
ليست الأنوثة وصفاً إيجابياً مطلقاً ولا سلبياً مطلقاً، وليست الذكورة كذلك، ولهذا قلت مرّةً: السجن ذكورة افتراسية قصوى. لم أقل "ذكورة" فقط، وقلت إن الحرية أنوثة رحمانية قصوى، ولم أقل "أنوثة" فقط.
اقرأ أيضًا: أغوص لأتلمس كل صدفة
لاحقاً عشتُ في دمشق وسمعتُ مجازات كثيرة عن الأنوثة في أماكن واختصاصات كثيرة في دمشق. في سوق الحميدية مثلاً، أو في أسواق الخضار يمكن لك أن تسمع من أحد البائعين أفضح ما يمكن سماعه من غزل موارب أو مبطّن يوجهه بائع لامرأة تمرّ بقربه، أو لجذب شارٍ أو شارية عابرين: "أصابع الببّو يا خيار"، "مستوية وخالصة"، "لا تشلّحني بشلح لحالي". هذه ثقافة بيع وشراء، فهل هناك ثقافة أكثر واقعية أو أكثر عمقاً وحضوراً بالمعنى العملي أو الملموس؟!
القاموس اللفظي اليومي لحياة البشر هو المؤشّر الأقرب لطبيعة تفكيرهم وهواجسهم وأحلامهم. لست في ميدان الإدانة أو الرفض بل في ميدان محاولة فهم العقل الذي يسترعي ذلك القاموس. والعقل ليس دائماً حكيماً، وأنا لا أستثني نفسي حين أطرح ذلك. أصارحكم أننا، أو لأقل إنني كسجين سابق لبضع سنوات قصرت أم طالت، كنت أبحث في السجن عن كل معنى يقبل التذكير والتأنيث، لكي أستخدم صيغته المؤنّثة. كنت مثلًا أستخدم لفظة "النافذة" بدلاً من لفظة الشبّاك، ولفظة ليلة بدلاً من ليل، ولفظة رقبة بدلاً من عنق، ولفظة عصفورة بدلاً من عصفور، ولفظة فرس بدلاً من حصان. ولكن في السجن، في تلك الجزيرة المعزولة والملعونة والخالية من النساء، يصبح ما هو غائب أكثر حضوراً، وأعتقد أن الأمر ينطبق من جهة مقابلة على النساء السجينات في جزيرتهنَّ الخالية من الرجال.
هل هو عقلٌ شرقيٌّ متفرِّد ومتوغِّل في شؤونه، أم أن الأمر عام لدى جميع الشعوب وعاديّ وقابل للمقايسة؟!
لا شيء يقبل القياس إلا ما يُقاس عليه.
بعض البدو، حين يوافقون على تزويج ابنتهم من أحد، يقولون له أو لأهله: أعطيناكم مهرة أصيلة تأكل بيدها لا بفمها.
وهناك من يقولون: المرأة من "رجَّالها" والفرس من خيَّالها. هذا الاقتران أو المرادفة بين المرأة ورجلها وبين الفرس وخيَّالها ليس اعتباطاً ولا مصادفة، بل هو لغة بالغة الدلالة على مضمَرات أشدّ وضوحاً مما لو كانت مباشرة أو صريحة.
وسمعتُ كثيراً أن فلانة أصيلة؛ هل ذلك يُضمِر في الخيال أنها فرس جيدة؟ وسمعت أيضاً أن فلاناً أصيل، هل ذلك يُضمِر في الخيال أنه حصان جيد؟
ليست الأنوثة وصفاً إيجابياً مطلقاً ولا سلبياً مطلقاً، وليست الذكورة كذلك، ولهذا قلت مرّةً: السجن ذكورة افتراسية قصوى. لم أقل "ذكورة" فقط، وقلت إن الحرية أنوثة رحمانية قصوى، ولم أقل "أنوثة" فقط.