تزوير من دون حدود... تشويه إماراتي لنص في "لوموند"

19 نوفمبر 2018
التضليل الإعلامي لا يحترم المتلقي (غاري ووترز)
+ الخط -

الكذب في الإعلام ليس علامة مسجّلة للصحافة العربية الخاضعة لمشيئة السلطان، فهو موجود بنسب متفاوتة في بلدان وحضارات ولغات عدة. لكن الأحداث الأخيرة أثبتت بما لا يدع مجالاً للشكّ أن بعض الصحافة العربية صار له باعٌ في ممارسة كذب وافتراء لا يحتاج إلى مواربة.

عموماً، ما يسمّى بالدعاية المغرضة له ناسه وحرّاسه، وله أصوله، أو هكذا يقولون. ويُمارس بشيء من الحنكة المشوبة بالخبث وبالنية السيئة، ولكنه يصل إلى الإنسان البسيط وكأنه الحقيقة المُثبَتة. وعلى الرغم من أن وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في جعل هذا النوع من الكذب الإعلامي كفاف يوم الناس ومادتهم المغذية، فإنّ ما أوصى به وزير الدعاية النازي، جوزيف غوبلز، إعلامييه بأن: "اكذب حتى يصدّقك الناس" يبدو وكأنه صار أكثر تحقّقاً في بعض الأوساط الإعلامية العربية.

وتذخر الذاكرة بأكاذيب دحر القوات الإسرائيلية في هزيمة عام 1967، إلى جانب أكاذيب الحكام العرب إعلامياً بتحقيق التقدّم والتنمية والتحديث والتطوير والإصلاح، من دون إظهار الحدّ الأدنى من الاحترام لعقل المتلقي.

لاحقاً، في حمأة ثورات الربيع العربي، المُجهَض منها والمُقاوِم حتى الآن، لم تتخلَ وسيلة إعلامية عربية، إلا فيما ندر، عن ممارسة الكذب المُبين أو نصف المُبين. وشاركت بكثافة بوابات الأخبار في الشبكة العنكبوتية في نشر هذه الأكاذيب التي تناولت أحداثاً ومجريات تاريخية وأشخاصاً بعينهم وعزّزتها. ومن نافل القول إن الوصول إلى الحقيقة، أو إلى نفي هذه الأكاذيب على الأقل، لا يحتاج إلى مستويات عالية من الذكاء بل إلى مُحرّك بحث واستطاعة إملائية تسمح بصف بعض الأحرف.

في صحراء الوعي والتخبّط الناجم عن هطول سيول من الأخبار ساعياً على المتلقي، صار من الهين تمرير الأكاذيب، مهما كانت غير قابلة للتصديق. ولقد أوضح الباحثون في مجال الإعلام أنه يكفي أن تطلق إشاعة كاذبة حتماً وتحمل في ثناياها ركاكة نصيّة ومفهومية، فهي ستنتشر بسرعة النار في الهشيم لدى المتلقّي. أما نفيها، مهما استند إلى حقائق ووقائع تحترم أولاً وآخراً عقل المتلقّي، فيحتاج إلى مدى زمني طويل. وقد فهم العاملون على هذه الوسائل بشكل جيد هذه القاعدة وطوّروها.

وقد صار الإعلام المصري، وخصوصاً بعد انقلاب 2013، سبّاقاً في نسج الأكاذيب وممارسة الافتراء الشخصي اليومي الذي لا يطاول المعارضين المحليين فحسب، بل يطاول أيضاً من خالف الحاكم الرأي خارج الحدود من عرب وأعاجم. فبمعزل عن المهازل التي لا تحتاج حتى للبرامج الفكاهية لإبرازها لأنها تأتي في نسخة متكاملة تحتوي الهزلي والتراجيدي من الكذب الذي "يقلع" العين، صارت هذه الوسائل بعامّها وخاصها، مجالس مديح رخيص بانقلابيي البلاد، وردح أرخص لمن واجههم سياسياً أو فكرياً.

وفي سعي للمنافسة في حقل الأكاذيب المفضوحة، يعمل إعلام بعض الدول الخليجية كالإمارات والسعودية مثلاً على تنفيذ وصية النازي غوبلز في الكذب، ولكنه يتجاوزها بطريقة يُعبّر من خلالها عن احتقاره لمواطنيه قبل كل شيء، فضحايا الأكاذيب غالباً ما يتندرون بجرعة الهزلية ويرأفون بحال المتلقي الذي يتعرّض لمثل هذا الانتهاك الصارخ لذكائه.

وفي أحدث الأمثلة التي ستُدرّس حتماً في كليّات الإعلام، لا يمكن إغفال الكذب والتحوير والتناقض والتشويه الذي لعبته هذه الوسائل ومن لف لفّها وتموّل من فتات موائدها فيما يتعلق بقضية قتل الصحافي السعودي، جمال الخاشقجي، داخل قنصلية بلاده في إسطنبول. فمن اللعب على "فوتوشوب" طفولي في بعض الصور إلى اختراع أقاصيص بحق خطيبته التركية إلى درجة اعتبارها رجلاً متنكراً من "جماعة الإخوان المسلمين"، فإن وسائل الإعلام هذه وضعت المراقب في حيرة بين الحزن الشديد لحجم الفاجعة والضحك الهستيري لمستوى الكذب وتشويه الحقائق الذي مورس طوال أسابيع قبل أن تعترف الحكومة السعودية مُجبرة بأن القتل قد تم في عين المكان.

إن ممارسة الكذب تنتقل من هدف إلى آخر، ويبدو أنها صارت القاعدة، كما كتب الراحل محمد الماغوط يوماً بحق مثل هذا الإعلام: "يكذبون حتى في النشرة الجوية".

وفي السياق، نشرت كبرى الصحف الفرنسية، "لوموند"، لقاءً مطوّلاً مع الدكتور عزمي بشارة، مدير عام المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، قبل أيام، إلى جانب مقالة مطوّلة فيها نوع من الـ "بورتريه" الذكية التي استنبطها الصحافي الفرنسي بعد 5 ساعات من الحوار، أشار هو بنفسه إلى أنه لم يكن مُعدّاً مسبقاً، وبالتالي، أخذ كل الحرية في طرح الأسئلة والحصول على أجوبة تجاوزت الشكل الصحافي لتطرح مشروعاً فكرياً شاملاً انعكس تماماً في النص الفرنسي.


وقد حظيت المادتان باهتمام واسع من قبل أصحاب القرار والباحثين في المشهد الفرنسي لما احتوتاه من صراحة في الطرح وصدق في الموقف وتلقائية في الإجابات. وبالتأكيد، فالنصّان موجهان إلى قارئٍ فرنسي يقرأ هذه الصحيفة ذات السمعة الراقية عالمياً ولا يهتم باستقاء معلوماته من الصحافة الصفراء المتواجدة أيضاً في الأكشاك. إلا أن أبواقاً إعلامية سارعت إلى تحريف ما ورد وتشويه النص وتحميله ما لم يرد فيه.

وفي أطرف عنوان، تقول إحداها: "اللوموند الفرنسية تكشف سر عزمي بشارة"، وأخرى تصفه بما تعوّدت صحف هاتين "الدولتين" استخدامه من كلام يليق بأخلاقيات العصابات ولكنها تُحيله إلى "لوموند". فعندما تقول الصحيفة إن بشارة مكروهٌ من القادة الطغاة بقصد الإشادة بموقفه، يتلقف البوق الإعلامي الإماراتي التعبير ليحوّله إلى أن "بشارة مكروه من كل الزعماء العرب".

وعندما تُشير الصحيفة في سياق الـ "بورتريه" شديدة الوضوح التي تتحدث عن صاحب مشروع أسس أهم مركز أبحاث في تاريخ العرب الحديث، تكثر بحقه الافتراءات ممن يتضرّرون من هذا المشروع، ومنها أنه مسؤول عن أزمة الخليج، تنصرف الأبواق إلى القول أن الصحيفة الفرنسية تعتبره مُثيراً للفتن في الخليج.

ومن الدلالات على أن محرري مثل هذه الأخبار أدنى من درجة مُتعلّم وأعلى من درجة مخبر، أنهم يفرحون بالقول إن "بشارة اعترف بأن وسائل الإعلام هي للتأثير على الرأي العام". إنه فعلاً اعتراف خطير، فوسائل الإعلام من المفترض بها أن تساهم في رفع نسبة الخميرة في الخبز الخالي من الملح مثلاً والله أعلم. كما يبدو أن مستوى المترجم المعتمد لديهم من اللغة الفرنسية يليق بطلاب مدرسة المشاغبين، فعندما تتحدث الصحيفة عن أن بشارة "متحكّم خلف الستار" فيما يتعلق بالثورات العربية، لا يجد المترجم الإماراتي سوى أن يقول: إن "بشارة دمية تتكلم باسم الثوار العرب".

من الصعب جداً تفكيك النص الكاذب لأنه كاذب حتى في أحرف الجر فيه أو في فواصله وتنوينه وتسكينه. إنما من المؤلم أن نجد أن مثل هذه الوسائل التي تحرّكها أذرع أمنية ضحلة الوعي إلى درجة تقترب من الأمية، تنظر إلى شعوبها وهي المتلقي الأول لمثل هذه الأكاذيب، كفئران تجربة قائمة على هلوسات سيؤدي تراكمها إلى انفجار ضميري في أقل تقدير، يُجبر الناس على الخروج عن صمتها.

في نهاية المقابلة التي أجرتها "لوموند"، يسأل الصحافي عن تأثير الأكاذيب التي تأتي بحقه من قبل هذا النوع من الإعلام ومن خلفه، فيجيب عزمي بشارة بسخرية مناسبة لختام هذه المقالة: "هذا أمرٌ لا بأس به، يكفي أنه ليس باستطاعتهم تعذيبنا".

المساهمون