تركيا ومشروع التخلص من "لوزان": قناة إسطنبول والحلم النفطي

30 سبتمبر 2018
من المتوقع إنهاء العمل بالقناة عام 2022 (كريس ماكغراث/Getty)
+ الخط -
في عام 2011، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عندما كان رئيساً للوزراء، عن مشروع "قناة إسطنبول المائية"، واصفاً إياه بـ"المشروع الجنوني"، وذلك ضمن حملة انتخابية لحزب العدالة والتنمية، ضمن حزمة مشاريع أعلن عنها، فأنجز بعض هذه المشاريع كالجسور المعلقة الكبيرة، فيما بقي مشروع القناة المائية في طور المخططات ولم يتحرك فيه أي شيء، وكان مخططاً الانتهاء منه في عام 2023. ولكن ما إن أعلن أردوغان عن المشروع الصادم في حينه، الرابط بين البحر الأسود شمالاً، وبحر مرمرة جنوباً، حتى ظهرت تحليلات وأبعاد عدة للمشروع، داخلياً وخارجياً. ومع الإصرار التركي على إكمال المشروع، برز بعد آخر في الخلاف التركي - الأميركي خصوصاً، والخلاف التركي - الغربي عموماً. وأحدث فصول المشروع هو تأكيد وزير الإنشاءات التركي مراد قوروم، قبل أيام، أن "الحكومة ماضية في تنفيذ المشروع بطول 43 كيلومتراً، مع مواصلة العمليات والدراسات ضمن خطة الحكومة الجديدة للمائة يوم الأولى من توليها الحكم قبل شهرين".

فتح المشروع الأنظار بداية إلى مسألة ارتباط مصير البوسفور باتفاقيات تأسيس الجمهورية التركية في عشرينيات القرن الماضي في مونترو ولوزان السويسريتين، ومن ضمن بنودها عدم تحصيل تركيا أي ضرائب من المضيق للعابرين، خصوصاً الدول الغربية. وهو ما يعني فقدان تركيا سنوياً مليارات من الدولارات من عدم تحصيل أي رسوم لعبور السفن من المضيق. كما منعت هذه الاتفاقيات تركيا من استخراج ثرواتها الطبيعية، ومنها النفط، إذ تشير تقديرات كثيرة إلى أن مناطق جنوب شرق البلاد تحوي ثروات نفطية واعدة، حالها كحال الجهة الأخرى من الحدود في جنوب شرق، وشرق تركيا، أي الأراضي الإيرانية والعراقية والسورية الغنية بالذهب الأسود.

ومع التدقيق في بنود اتفاقية لوزان الموقعة في عام 1923، يظهر تعريف مصير المضائق ومنها مضيق البوسفور بأنها ممرات مائية دولية، بالتالي لا سيطرة تركية عليها. وبعد بضع سنوات من ولادة اتفاقية لوزان، حصلت أزمة دبلوماسية روسية تركية بسبب إسقاط أنقرة طائرة روسية اخترقت مجالها الجوي، فردت روسيا بفرض عقوبات، وهو ما واجهته أنقرة عبر إغلاق مضيق البوسفور، فتطلب الأمر مباحثات جديدة بين الدول الغربية وتركيا استمرت شهرين عام 1936 ، أفضت إلى فرض السيطرة من قبل تركيا على المضائق، بشرط عدم اعتراض أي سفينة ترفع علماً في وقت السلم، من دون السماح لأنقرة بتحصيل الضرائب، فيما يحق لتركيا إغلاق المضائق وقت الحرب (وذلك بموجب اتفاقية مونترو 1936). ولم تتضمن الاتفاقية بنوداً تتعلق باستخراج النفط، ولكن هناك أحاديث عن بنود سرية غير معلنة في اتفاقية لوزان تتضمن حظر تنقيب تركيا عن النفط. وفي ظل تفضيل مسؤولين أتراك عدم الرد على أسئلة "العربي الجديد" حول الموضوع، يبقى الغموض مسيطراً على ملف النفط التركي، على الرغم من أن الجغرافيا التي تحيط بجنوب شرق تركيا، هي منطقة غنية بالنفط، في سورية والعراق وإيران جنوباً، وأذربيجان شرقاً، وروسيا شمالاً.

وقبل سنوات من انتهاء مدة اتفاقية لوزان، التي لم يُحدَّد عمرٌ لها أيضاً، لكن جرت العادة على أن تكون الاتفاقيات الدولية المشابهة لمائة عام، يبدو أن تركيا تتخوف من استمرار الحظر الغربي، وهو ما يفسر إصرار أردوغان على السير قدماً بمشروع قناة إسطنبول، على أن يغلق مضيق البوسفور لاحقاً أمام الملاحة الدولية، بحجة كثافة حركة المرور التي تلوث بيئة مدينة إسطنبول، فضلاً عن مخاطر تتعلق بالزلازل.

هذا الموضوع أثار الشعور القومي داخلياً في بداية الحديث عن المشروع، وعودة المناقشات الداخلية، حول حرمان تركيا من الكثير من المقوّمات والإمكانيات عبر حصرها باتفاقيات تأسيس الجمهورية والشروط الموضوعة. وجاء المشروع الجديد كهدفٍ من أهداف مواجهة المخاطر الزلزالية التي تهدد إسطنبول، والحديث عن قناة بنما المائية وتشبيهها به، حتى أن أردوغان كان قد قال إن الذي صنع بنما هي قناتها المائية، في معرض دفاعه عن المشروع.

طرحُ المشروع أزعج الدول الغربية بشكل واضح، كذلك أزعج طيفاً من المعارضة التركية، التي ما انفكت تنادي بإلغاء المشروع، فمرشح حزب الشعب الجمهوري لبلدية إسطنبول مصطفى ساري أوغلو في انتخابات 2014، أكد غير مرة أن "المشروع لن يفيد تركيا"، وأنه "سيعمل حال انتخابه رئيساً لبلدية إسطنبول على إلغائه"، تماماً كما كان أعلن عن إلغاء مشروع المطار الثالث الذي وصف مكانه بـ"الخاطئ". وكذلك، قال مرشح الحزب لرئاسة الجمهورية محرم إنجه في انتخابات 2018.




كما ظهرت مطالب إلغاء مشروع قناة إسطنبول المائية في تظاهرات تقسيم التي جرت في عام 2013، حين تسلمت الحكومة مطالب من المتظاهرين تضمّنت نفس مطالب المعارضة في حينها، من إلغاء مشاريع كالجسور والمطار ومشروع القناة المائية. وخلال هذه المدة، قدمت دراسات عديدة عن مخاطر القناة البيئية وتأثيرها في الثروة المائية لمدينة إسطنبول، وبشكل خاص تأثيرها في بحيرة مياه عذبة، مما يقلل من مخزون المياه العذبة في إسطنبول، ويساهم في تسريع الجفاف في المدينة، فضلاً عن مخاطر عديدة جغرافية.

أما الخلاف الأميركي - التركي الحالي، فنابع في وجه منه من عدم ارتياح المؤسسات الأميركية للمشروع، وعزم الحكومة التركية على تنفيذه، وإن كانت التباينات مختلفة بين الجانبين التركي والأميركي، فتركيا تهدف إلى تأمين المزيد من الأرباح في القناة، والانعتاق من التبعية الغربية، إلا أن القلق الأميركي نابع من أمور مرتبطة بمشاريع الصين التجارية في تركيا.

ورأى مراقبون أتراك مختصون بالشأن الأميركي، أن "قلق أميركا نابع من طموحات الصين بأن تستفيد من مشاريع البنية التحتية التركية التي تجري من بناء الجسور والأنفاق والطرق السريعة، وأهمها قناة إسطنبول المائية". واعتبر المراقبون أن "الصين تستفيد من هذه المشاريع في مشروعها الاستراتيجي المعروف بإحياء طريق الحرير التاريخي، في طريق معاصر لنقل تجارتها من الشرق إلى الغرب، وهو ما يقلق أميركا التي ترى في المارد الصيني تهديداً اقتصادياً".

ويُضاف الخلاف على القناة إلى سلسلة الخلافات المباشرة التركية - الأميركية المرتبطة بالقس الأميركي أندرو برانسون، وصواريخ إس 400 الروسية، ومقاتلات أف 35، وأزمة مصرف "خلق بنك" التركي الذي خرق العقوبات الأميركية على إيران. وهي ملفات مباشرة، ولكن هناك قضايا عالقة على المدى البعيد متعلقة باستراتيجيات مختلفة لتركيا ولأوروبا، وبمصالح تجارية كبرى، إلا أن تركيا تستغل هذه العوامل لمنع الغرب من فرض مزيد من الضغوط عليها، بالتلويح الدائم بالتوجه إلى روسيا، والصين.



في هذا السياق، ذكرت صحيفة "خبر تورك" أخيراً، أن "موضوع قناة إسطنبول المائية، دفع 14 سيناتوراً أميركياً لتوجيه رسالة إلى كل من وزير الخزانة الأميركي ستيفن مونتشين ووزير الخارجية مايك بومبيو، متناولين فيها سعي الصين إلى توقيع اتفاقيات مع عدد من البلدان حول طريق الحرير، باسم المشروع الجديد (طريق واحد هلال واحد)، تستهدف بالأساس القوة الأميركية الحاكمة وإضعاف القدرة الأميركية في النهاية، ولمنع حدوث هذا الأمر يتوجب منع الصين بتعاقدات لمجموعة من الدول مع صندوق النقد الدولي، وعدم الاكتفاء بذلك بل العمل على الاستثمارات في مختلف البلدان، وإذا ما دخلت تركيا في المشروع الصيني من خلال بنيتها التحتية، فيجب أن تكون هناك إجراءات أميركية رادعة".

هذه الرسالة أكدت جدلية المشروع، وهو ما انعكس على التأخر في تنفيذه رغم مرور 7 سنوات على الكشف عنه، ما دفع أوساطاً داخلية للحديث عن إمكانية إلغاء المشروع، إذا وصلت الضغوط إلى ذروتها. ولكن تركيا الجديدة، مع النظام الرئاسي الجديد وحكومة أردوغان، أظهرت مؤشرات ودلائل على أن "الحكومة ستمضي في مشروعها السيادي العملاق، وهي مستعدة لمزيد من المواجهات مع الغرب وأميركا، بالاعتماد على المتغيرات الدولية، خصوصاً مواقف إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب من مختلف القوى العالمية، والخلافات مع دول الجوار مثل كندا والمكسيك، والخلاف مع الحليف الأوروبي، والمواجهة مع الصين ودول أخرى".

والمشروع الذي وصفه الإعلام التركي بأنه "مشروع العصر" أضخم عمل سيتم إنجازه في تاريخ الجمهورية التركية، وسيعزز مكانة تركيا في مجال المعابر المائية. وكان وزير النقل والاتصالات والملاحة البحرية التركي السابق أحمد أرسلان، قد أعلن أن مسار "كوتشوك تشكمجه - سازلي دره - دوروسو كوي" هو المسار الأفضل لإنشاء المشروع، وسيتم تقييم عدد من النماذج في إنشاء المشروع، أهمها نظام "التشييد والتشغيل والتحويل"، والتعاون بين القطاعين العام والخاص، إلى جانب بدائل أخرى.

وتهدف الحكومة التركية من خلال إنشاء قناة إسطنبول، إلى التخفيف من حركة السفن في مضيق البوسفور، كما تسعى إلى التقليل من الأضرار التي تبعثها السفن الناقلة الموادَّ الخطيرة، فضلاً عن إزالة المباني العشوائية الواقعة على المسار، فيما بدأت أعمال التنقيب في مسار المشروع العام الماضي، وانتهت أوائل العام الحالي، وهي الحجج التي بنيت عليها مشروعها، وإغلاق مضيق البوسفور لاحقاً.

ويقول الباحث التركي جاهد طوز المقرب من حزب العدالة والتنمية الحاكم، في حديث لـ"العربي الجديد"، إن مشروع قناة إسطنبول يعني أن تركيا "لم تعد قادرة على قبول الشروط المفروضة عليها منذ توقيعها مجبرة على اتفاقية لوزان ، بمنطق الخاسر في الحرب". ويشير إلى أنه من الناحية الاقتصادية، تركيا ستتمكن، بفضل قناة إسطنبول، من تحصيل أجور عبور السفن، مما يساهم بإيرادات بمليارات الدولارات سنوياً، كما أن المنطقة التي سيتم شق القناة فيها ستؤدي إلى تأسيس مجموعة من المدن الجديدة". وأضاف طوز

أما في ما يخص الكلام عن منع تركيا من استثمار النفط المحتمل وجوده في أراضي جنوب شرق، وشرق الأناضول، فيرى طوز أن "اتفاقية لوزان ستنتهي قريباً، وتركيا ترغب باتخاذ تدابير احتياطية، من دون النظر لانتهاء الاتفاقية من عدمه، لهذا تصر على تنفيذ مشاريعها". ويؤكد طوز أن تركيا ممنوعة بموجب إملاءات الاتفاقيات السابقة، من استخراج النفط، مع أن "أبحاثاً كثيراً أظهرت وجود احتياطات نفطية كبيرة بالفعل جنوب شرقي البلاد".

بدوره، قال الكاتب والمحلل السياسي التركي، طه عودة أوغلو، إن "مشروع القناة سيؤدي إلى ولادة مدينة جديدة في إسطنبول بعدد سكان يصل إلى 7.5 ملايين نسمة، وهذا يعني أنها ستكون ثاني أكبر مدينة في تركيا" بعد إسطنبول وقبل العاصمة أنقرة. طه عودة أوغلو، في حديثه لـ"العربي الجديد"، يتوقع أن يدرّ المشروع على تركيا نحو ثمانية مليارات دولار سنوياً، بالتالي فإنه يعتبر أن عائدات القناة الجديدة ستغطي خلال عامين فقط تكاليف المشروع البالغة نحو 15 مليار دولار"، بما أن تركيا ستكون قادرة على تحصيل 5.5 دولارات عن كل طن من البضائع وحمولات السفن التي تعبرها يومياً. ويشير إلى أنه وفقاً للمعلومات، فإن القناة التي ستربط شاطئ منطقة سليفري على بحر مرمرة بشاطئ كاراكوي على البحر الأسود، ستمنح تركيا أفضلية تنافسية كبيرة في تجارة النقل الدولي التي يمر أكثر من 75 في المائة منها عبر البحر". كما يلفت طه عودة أوغلو إلى أن تركيا "سيكون بإمكانها، بعد انتهاء مدة المعاهدة (2023 نظرياً)، التنقيب عن النفط، لتنضم إلى قائمة الدول المنتجة للنفط".

أما الكاتب الصحافي حمزة تكين، فيفصّل في مشروع القناة ويقول إن مسارها يمر ببحيرة كوتشوك تشكمجه، وسد سازلي ديرة، إلى شرق بحيرة تيركوس، وصولاً إلى البحر الأسود، لتكون قناة إسطنبول بعرض 400 متر وعمق 25 متراً، ولتُبنى على طول القناة 10 جسور، كما ستكون الطرقات على طرفي القناة بعرض 50 متراً، وتضم 8 مسارب للسيارات، وستبنى تحت هذه الطرقات مواقف سيارات بسعة تصل إلى 150 ألف سيارة، بحسب المشروع الموضوع طبعاً.

ويلفت تكين في حديثه لـ"العربي الجديد" إلى أنه "من المقرر أن تمر في القناة يومياً ما متوسطه 137 سفينة شحن، و27 ناقلة على متنها حمولات تجارية يصل وزنها إلى 150 مليون طن. أما ما سينتج عن حفريات قناة إسطنبول فلن يُرمى من دون أن تتم الاستفادة منه، إذ إنه سيتم من هذا الردم الذي يقدر حجمه بـ2.7 مليار متر مكعب، إنشاء 3 جزر اصطناعية" بحسب معلومات الصحافي التركي.

وعن موجبات تنفيذ قناة إسطنبول، يقول تكين إن البوسفور تعبره 50 ألف سفينة سنوياً، لذلك هو يعتبر من أكثر الممرات المائية ازدحاماً حول العالم، وهو المنفذ البحري الوحيد إلى المحيطات بالنسبة إلى بلغاريا ورومانيا وأوكرانيا وجورجيا وموانئ روسيا على البحر الأسود. ويشدد تكين على أن هناك سبباً آخر لتنفيذ هذا المشروع، إذ "ستتمكن تركيا من تعويض الأموال التي حُرمت منها جراء اتفاقية مونترو (نوفمبر/تشرين الثاني 1936)، وأعادت لتركيا سيادتها الكاملة على المضائق البحرية، ونظمت حركة المرور عبر مضائق البحر الأسود للسفن التجارية".