تركة داعش... عراقيون يحاولون التغلب على المأساة

16 يونيو 2017
مرعباً كان ما عايشنه (يونس كيليس/ الأناضول)
+ الخط -

عاد عراقيون كثر إلى مناطقهم المحرّرة في الموصل، لكنّ "تركة داعش" ثقيلة عليهم. الصغار من جهتهم ما زالوا يسردون مشاهد مروّعة سجّلتها ذاكرتهم.

ينتظر إسماعيل النعيمي دوره لاستلام حصة عائلته من المواد الغذائية التي توزّعها إحدى المنظمات الإغاثية، فهو وجميع سكان المناطق المحررة من الموصل، شماليّ العراق، في حاجة إلى المساعدة مهما كان شكلها. هؤلاء بأغلبهم فقدوا الموارد التي كانت توفّر لهم متطلبات الحياة اليومية.

يتلقّى بعض أهالي الموصل مساعدات مالية من أقارب في مدن عراقية أخرى، في حين تمكّن بعض آخر من العثور على عمل في الأسواق التي أعاد الأهالي افتتاحها. أمّا النعيمي فيكتفي بمبلغ يصله من أبناء عمومته الذين يقطنون في محافظة أخرى، ويقول إنّ المبلغ يكفيه وأسرته بالإضافة إلى ما يحصل عليه من جهات إغاثية. وعلى الرغم من أنّ منزله ما زال بنصفه غير صالح للسكن بعد تعرّضه إلى القصف، فإنّه سعيد بعودته إليه.

ويقول النعيمي لـ"العربي الجديد" إنّه "ولنحو أربعة أشهر، بقينا في مخيمات النزوح بعد هروبنا على أثر اندلاع المعارك لتحرير منطقتنا في حيّ المثنى على الساحل الأيسر من المدينة". أمّا الأكثر أهمية بالنسبة إلى النعيمي فهو أنّه "عندما فاجأني الأولاد في الثالث من يونيو/ حزيران باحتفال بسيط بمناسبة ذكرى ميلادي الثاني والأربعين، رأيت أنّني لم أفقد أحداً من عائلتي". يضيف: "أسعدني الفرح الذي رأيته لدى عائلتي حينها. لست مهتماً بالدمار الذي أصاب بيتي، بل أحمد الله على أنّ زوجتي وأولادي بخير. وأنا أبذل جهدي حتى أتمكّن من محو مشاهد الدمار والقتل والرعب التي عاشها أولادي". ويشير إلى أنّ أولاده عانوا كثيراً، "من مشاهد القتلى المرعبة خلال هربنا، ومن قسوة الحياة في ظل تنظيم داعش، والمعاناة في مخيّم النزوح حيث لم تكن خيمنا تقينا البرد". ويؤكّد: "أحمد الله كثيراً على أنّهم بخير".

في المناطق التي تحررت وعاد أهلها إليها، تنتشر قصص كثيرة مؤلمة. هذا ما يشير إليه أحمد عباس الذي يتردّد باستمرار على تلك المناطق ويزور أهلها، نظراً إلى عمله مع منظمات إنسانية. يقول لـ "العربي الجديد" إنّ "كل إنسان هنا قصة مؤثرة بحدّ ذاته. والأطفال ببراءتهم، يسردون أحداثاً مرعبة. لقد رأوا مشاهد لا يحتملها الكبار". يضيف أنّه "كلما رأيت طفلاً سألته عن حاله، فيجيب بابتسامة قبل أن يقول: أحسن من قبل. وحين أسأله عن أسوأ ما يتذكره، يسرد قصصاً مرعبة". ويتابع أنّ "أطفالاً صغاراً لا تتجاوز أعمارهم عشرة أعوام يتحدثون عن عمليات إعدام شاهدوها بأعينهم، وعن جثث تناثرت هنا وهناك من جرّاء المعارك، بالإضافة إلى تلك التي كانوا يصادفونها على الطرقات وهم ينزحون. وثمّة أطفال يتحدّثون عن أشخاص قُتلوا بالقرب منهم".

عادوا إلى الديار.. المنكوبة (يونس كيليس/ الأناضول)


ويخبر عباس أنّه في مرّة "رحت أسأل: هل تخيفك المشاهد التي رأيتها؟ فأتت إجابات أغلب الأطفال أنّهم يتذكرونها ويشعرون بالخوف. وثمّة آخرون حاولوا أن يكونوا أكثر تماسكاً وقوة، قائلين إنّها أصبحت بالنسبة إليهم أشياء طبيعية". ويؤكد أنّ "كثيرين هم الأطفال الذين عاشوا التجارب نفسها وشاهدوا فظائع كثيرة. الأمر لا يحتمل. هم يتحدثون عن جثث مقطعة الأوصال وبقايا أجسام بشرية تناثرت لتوّها".

بكلّ الطرق يحاول أهالي المناطق المحرّرة التخلّص ممّا طرأ على حياتهم خلال ثلاث سنوات، وهي الفترة التي فرض فيها تنظيم "داعش" سيطرته على مدينتهم بأحكام قاسية أجبرت كثيرين إلى التخلي عن هواياتهم وأعمالهم وعاداتهم وطقوسهم التي اعتادوا عليها لأنّها كانت لتتسبب في قتلهم.

ومن خلال العودة إلى ممارسة ما منعه تنظيم "داعش"، يرى منذر جعفر، وهو شاب عشريني، أنّهم سوف يتمكنون من "محو ما تركه التنظيم في نفوس أهالي الموصل". ويخبر أنّه وأصدقاءه عادوا إلى ما كانوا يستمتعون به قبل سيطرة التنظيم على مدينتهم، "فنجتمع في مكان عام فسيح ونجلس على الأرض وندخّن النرجيلة ونستمع إلى الأغاني الشبابية عبر هاتف أحدنا". تجدر الإشارة إلى أنّ والد جعفر وشقيقه قتلا على يد "داعش" بتهمة ولائهما للجيش العراقي، لكنّه يقول: "ما جرى كان من الماضي، ومن واجبي وواجب بقية الشباب إرجاع البسمة إلى وجوه أقاربنا والناس الآخرين".

ويشير جعفر لـ "العربي الجديد" إلى أنّه وأصدقاءه "نتعمّد ارتداء الملابس الشبابية الحديثة بالألوان البراقة والتي تحمل كتابات إنكليزية وصوراً ورسومات". ويتعمّدون كذلك أن تكون تسريحاتهم لافتة وشبابية، وأن يضعوا الإكسسوارات الشبابية، ويشاركوا في المناسبات الاجتماعية، "فنحن حرصاء على أن نكون حاضرين في الأماكن العامة". ويوضح أنّ تلك الخطوات التي يصرّ وأصدقاؤه على اتخاذها، تساعد على رفع معنويات الناس، "فهم متعبون ممّا عاشوه وشاهدوه. الجميع مرّ بأسوأ ظرف قد يعرفه بشر. الحكمة هنا هي أن نخرج من تأثيرات الفترة الماضية لكي نعيش حياتنا بطريقة سوية".




على الرغم من تفكير جعفر وأصدقائه الإنساني، فإنّ مبادراتهم لا تلقى ترحيباً من قبل عدد من السكان. هؤلاء بحسب محمد فارس، أحد أصدقاء جعفر، لا يرون أنّ "ثمّة مجالاً للفرح والاستمتاع حالياً. فالمعارك ما زالت مستمرة في مناطق أخرى من الموصل لم تُحرّر بعد، وكثيرون فقدوا أحباء لهم، والجثث تصل باستمرار وكذلك المصابون من قوات الجيش والسكان". ويقول فارس لـ "العربي الجديد" إنّ "ما جرى للسكان ليس هيّناً، فالمدينة مرّت بسنوات صعبة وقاسية. ونحن لم نكن نعيش وضعاً جيداً قبل سيطرة داعش على مدينتنا، إذ كنّا نتعرّض للظلم كذلك". يضيف أنّ "الأوضاع ساءت بصورة كبيرة مع سيطر داعش الذي فرض علينا قوانين صارمة. كل شيء كان تحت حكم الحلال والحرام، والحرام كان نصيب عاداتنا وهواياتنا ونتيجته القتل. لذلك، اختار الشباب العزلة فيما نجح بعض منهم في الهروب من المدينة. وقد أُعدم آخرون أو تعرّضوا للتعذيب والسجن لأنّهم رفضوا الانصياع للأوامر".

ويوضح فارس أنّه "كان يتوجّب علينا نحن الشباب إطالة لحانا وعدم مجاراة الحداثة في قصات الشعر والملابس حتى لا نُشبَّه بالكفار ونعاقَب بالتالي. كذلك، كانت الموسيقى حراماً والفنون حراماً، وكنّا نحرص على غلق النوافذ والأبواب وتعتيم المكان حتى ندخّن السجائر والنارجيلة ونضحك بصوت مرتفع ونستمع إلى الموسيقى والأغاني". ويشدّد فارس على أنّه ومجموعة أصدقائه "نحاول جاهدين نشر ثقافة حبّ الحياة بين الناس".

ثمانية آلاف ضحية وأكثر

في 17 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أطلقت الحكومة العراقية عمليات عسكرية لاستعادة الموصل من تنظيم "داعش" الذي فرض سيطرته على المدينة في يونيو/ حزيران من عام 2014. ضحايا مدنيون كثر قد يصل عددهم إلى ثمانية آلاف سقطوا من جرّاء تلك العمليات المسنودة بغطاء جوي من قوات التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية.