في آخر خطابين للإدارة الأميركية في الشأن الخارجي، كان نصيب القضية الفلسطينية إما النظر إليها من العدسة الإسرائيلية البحتة وإما الإشارة العابرة إليها، كما لو أنها صارت أشبه بالرقم الذي يجري ترحيله إلى الإدارة المقبلة.
قبل أيام، وخلال مشاركته في "منتدى صبان 2016 " السنوي في واشنطن، استفاض وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، في التعبير عن عواطفه ومحبته وإعجابة اللامحدود بإسرائيل التي "أقيمت خلال مراحل، بدأت بمؤتمر بازل ووعد بلفور، ثم ما تبع ذلك من حروب لتكوين هذا الشيء الجميل الذي يدعى إسرائيل، التي تعتبر أعظم قصة في التاريخ"، على حدّ تعبيره.
لوى عنق التاريخ، بما بدا أقرب إلى التملق المبالغ فيه وغير اللائق، ليؤكد على شهادة حسن سلوك، قبل أن يستعطف القيادة الإسرائيلية للقبول بحل الدولتين، مشيراً إلى أنّ "واشنطن تطلبه من باب محبتنا لإسرائيل ومن موقعي كصديق قوي ومدافع عنها". وهو إذ يرجوها التجاوب مع حل الدولتين، "كضمانة لحماية أمنها وهويتها اليهودية بالدرجة الأولى".
كان تركيز كيري في هذه المناسبة على نيل "شهادة حسن سلوك"، لعلّ تمنياته على إسرائيل تلقى الآذان الصاغية في صفوف الحضور واستطراداً في إسرائيل. نسي الوزير أو تناسى أن مثل هذا الخطاب ثبت عقمه. فهو جرّبه وخصص عشرة أشهر بين 2013 و2014 لعمليةٍ صرف فيها هو والرئيس أوباما الكثير من الرأسمال السياسي، لكن من دون جدوى. بل إن هذا التوجه مع ما رافقه من تساهل وأحيانا رضوخ، ساهم في مفاقمة الاستيطان الذي باعتراف كيري، صار يهدد خيار الدولتين "لو جرى تنفيذ مشروع الاستيطان" الذي تمّ إقراره الإثنين.
وفي السياق نفسه، اكتفى الرئيس أوباما في خطابه الخارجي الأخير، أمس الثلاثاء، بذكر "النزاع الفلسطيني الإسرائيلي" في معرض إشارته إلى أهمية الدبلوماسية في حل النزاعات في الشرق الأوسط. استشهد بما حققته الدبلوماسية في التوصل إلى الاتفاق النووي الإيراني، لكنه تجاهل أنها بصورتها التقليدية لم تنفع مع إسرائيل.
وكانت أمام أوباما فرصة تاريخية "لوضع خريطة حل" ملزمة ودعوة الطرفين إلى القبول بها، كما اقترح مستشار الرئيس جيمي كارتر لشؤون الأمن القومي، زبغنيو بريجنسكي، منذ سنوات، "لأن إسرائيل قوية إلى حدّ أنها لن تقدم أي حل والجانب الفلسطيني ضعيف، بحيث أنه غير قادر على انتزاع حل"، كما قال.
بدلاً من ذلك، حرق الوقت بين التوهم وبين الإذعان، وما سبق وتردد عن عزمه على طرح مشروع قرار في مجلس الأمن للاعتراف بدولة فلسطين، يبدو أنه قد تراجع عنه. مصادر قريبة من الحزب الديمقراطي أشارت إلى أن أوباما كان يعتزم المضي بمثل هذا الخيار "لو فازت هيلاري كلينتون". الآن تبدلت المعادلة والخشية أنه لو فعل، ربما يقوم الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، بنقل السفارة إلى القدس.
بكل حال وأمام هذه التركة الخائبة في جانبها الفلسطيني، من المتوقع أن يبادر فريق ترامب إلى خطوات أخرى، فهناك همس وتكهنات مبنية على تسريبات، بأنه قد يصرف النظر عن الخطاب الأميركي المتوارث منذ عقود، والذي يعتبر أن المستوطانت "غير مشروعة"، وأيضاً "معرقلة " لمساعي التسوية. موقف متعمد ولو أنه لم يكن له أي تأثير على حركة الاستيطان.
مع ذلك، ثمة حراك وتمهيدات لتخلي إدارة ترامب عن مثل هذا الموقف ولو الأجوف، خاصة وأن أجواء المحافظين تدفع في هذا الاتجاه، وقد دفعوا بمشروع قانون جرى إقراره في عدة ولايات منها نيويورك وكاليفورنيا، يجري بموجبه اعتبار أي محاولة لمقاطعة البضائع الإسرائيلية المصنعة في المستوطنات، بمثابة موقف معاد للسامية مع ما يترتب على ذلك من عواقب.
ولعل تهاون إدارة أوباما مع إسرائيل وتجاوزاتها، قد تظهر ترجمته على الأرض بشكل انقلاب على الأولويات، في زمن ترامب.