ترطن اللغة.. فيفلت الواقع

03 يونيو 2018
تمثال "البيروقراطي المجهول" في ريكافيك (إيسلندا) لـ ماغنوس توماسون
+ الخط -

يصف المفكّر الروماني الفرنسي إميل سيوران (1911 - 1995) أو تشوران باللفظ الصحيح للاسم في الرومانية، الذي يقال إنه "شبيه الألماني (نيتشه) ولكن من دون مطرقته"، لغة الخطاب الألماني، وخاصة في الفلسفة، بأنها "رطانة" تأثر بها في شبابه، وظل زمناً يظن أن الفلسفة ليس من المفروض أن تكون مداخلها في متناول الآخرين ممّن لا يجيدون استخدام مصطلحاتها الفنية المعقدة، إلى أن بدأ يفهم تدريجياً جانب اللغة الفلسفية المخادع هذا، والأضرار التي أوقعها الأسلوب الألماني المستدخل باللغة الفلسفية الفرنسية.

كان الفرنسي بول فاليري (1871 - 1945)، الراقد الآن في مقبرة مدينة سيت الساحلية على شاطئ المتوسط، هو الذي قدّم له مساعدة كبيرة حين كتب بلغة بالغة الصفاء والعمق في الوقت نفسه.

تلك الرطانة، رطانة الخطاب الألماني، تمنحك، كما يقول، إحساساً بالتفوّق على الناس جميعاً، وزهواً يعدّه من أسوأ أنواع الزهو، وكان تأثيرها في فرنسا كارثياً، فلم يعد الفرنسي قادراً على قول الأشياء بشكل بسيط بعدما تفشى هذا الأسلوب، وساهم أشخاص مثل "سارتر" (1905 - 1980)، ومارتن هايدغر (1889 - 1976)، بتأثيرهم الهائل على الثقافة الفرنسية، في توليد هذا الأسلوب، فهما يستخدمان لغة معقدة لقول أشياء بالغة البساطة. ولا يقتصر خطر هذه اللغة المعقدة على توليد هوس العظمة في نفس المرء واختلاق عالم مصطنع ينتحل فيه شخصية كلية القدرة، بل يصل إلى درجة فقدانه لأي صلة بالواقع فقداناً مطلقاً.

هذه الإشارة الأخيرة إلى خطر أن تقطع الرطانة اللغوية صلة الإنسان بالواقع، سواء شاعت في الفلسفة أو النقد الأدبي أو أي لغة أخرى، سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، تذكّر فوراً بتأثيرات مماثلة مارستها خطابات مستدخلة في الثقافة العربية على امتداد القرن الماضي، وتصاعدت هذه الرطانة في السنوات الأخيرة مع توافد لغات في الفلسفة والاقتصاد والأدب من جهات شتّى، فلم تعد غالبية الكتّاب العرب قادرة على قول الأشياء بلغة بسيطة وصافية، خالية من تعابير ظهر في عدة مناسبات أن كاتبيها لا يعرفون معناها، ولا يدركون إدراكاً كافياً دلالاتها وسياقاتها. تعابير ترد في مقالاتهم وكتبهم منتزعة من سياقاتها الأصلية، ولا تمت بصلة للسياقات التي يولجونها فيها، ولا بالواقع الذي يفترض أن يكون موضع مقاربتهم.

انفصال الخطاب عن الواقع، ذاك الذي لمسه سيوران في الثقافة الفرنسية، ورأى أنه نتيجة رطانة تلم باللغة شبيهة بالوباء المعدي، وما تولده من إحساس فارغ بالعظمة والزهو وتعال على الناس جميعاً، ظلت أسبابه في الثقافة العربية شبه غائبة عن الوعي.

لم تكن الأسباب هي الرطانة المستدخلة والشائعة في الخطاب العربي، سواء كانت فلسفية أو أدبية أو سياسية بل وحتى اقتصادية، ولا كانت "تعاظم" كتّاب وشعراء ومفكرين، وخلق عوالم مصطنعة ارتدوا فيها مسوح الكهنة والعرافين والسحرة، بل كانت كما زعموا في الكثير من المناسبات علو هذه "المعارف الرفيعة"، وعلو أصحابها، وبعدها وبعدهم عن أفهام الجمهور العربي "المتخلف" مادياً وثقافياً.

لم يجر بحث معمق في ظاهرة الانفصال عن الواقع وجذورها في لغة الخطابات الراطنة التي وصلت لدى بعض الكتاب والنقاد إلى درجة الهلوسة والهذيان، بل تم تكييفها بين حدّين؛ حد تجاوز أصحابها لزمنهم، وحد قصور الثقافة العربية التي لم تستطع الارتفاع إلى مستواهم، أو اللحاق بهم.

ولأن انتشار مثل هذه اللغة الراطنة/ الوباء ظاهرة عامة لا تخص أفراداً بأعيانهم، فمن الأفضل إهمال ذكر أسماء من ساهموا في نشر هذه الرطانة على الصعيد العربي، والالتفات إلى أسبابها وتبعاتها. أخطر التبعات، كما أسلفنا، هو انفصال المرء عن الواقع انفصالاً تاماً، وهذه التبعة هي الأولى بالاهتمام. أما الأسباب، فأشهرها الترجمات الرديئة، أو إساءة الفهم لدى النقلة والنقدة والعائدين من رحلاتهم، الحقيقي منها والمتخيل، وأخيراً الإحساس بالتفوق الذي يغذيه قول ما غمض وما لا يفهم تعمداً، تدليلاً على التفرّد والانفراد.

والحصيلة هي أن لا يعود حتى الإنسان المتوسط الثقافة قادراً على قول ما يريد بلغة صافية، أو توصيل ما يفكر فيه ببساطة بعدما تحوّل البسيط والواضح إلى عُملة نادرة، وصارت الرطانة في الفلسفة امتيازاً، والتعقيد في النقد الأدبي مهارة، والإغراب في التعليل غاية. أو بعبارة مختصرة؛ الحصيلة هي أن نجد على ألسنتنا لغة ترطن وبين أيدينا واقع يفلت منا، وكارثة الكوارث أن لا نعرف لماذا.

المساهمون