يراجع السعودي محمد الخضيري، مشفى الملك سلمان في حي البديعة (جنوب العاصمة الرياض)، بشكل مستمر منذ أكثر من أربعة أعوام بسبب مشاكل في الصدر، إذ يعاني الخضيري من ضيق في التنفس والتهابات في الرئة، وهي معاناة لم يبدأ في التعرف إليها إلا بعد أن اشترى منزله الجديد في حي الدار البيضاء في أقصى جنوب الرياض. بعد أشهر من الألم أكد الأطباء للخضيري أنه يعاني من التهابات حادة في الرئة بسبب التلوث الذي يحيط به، وأنه مهدد بالتعرض لسرطان الرئة لو استمر الحال على ما هو عليه.
الخضيري يعد واحدا من عشرات السعوديين ممن يراجعون أطباء الصدر بسبب مشاكل من هذا النوع، خاصة في جنوب الرياض التي تعج بمصانع الإسمنت والمواد الكيماوية، يؤكد الخضيري لـ"العربي الجديد" أنه يعاني كثيرا "جراء التلوث الذي يحيط به، ويفكر جديا في بيع منزله".
ولا يختلف حال فرج الشمري عن الخضيري كثيرا، هو الآخر عاني من مشاكل في الصدر منذ أن انتقل إلى حي الشفاء في جنوب الرياض، يقول الشمري الذي بدا أكثر استياء من الوضع: "نعيش وسط تلوث غير طبيعي، في كل يوم يزيد معدل تلوث الهواء، ناهيك عن الروائح الكريهة التي تعج بالمكان بسبب منطقة الصرف الصحي الموجودة في جنوب الرياض".
الرياض.. خامس مدن العالم تلوثاً
تعاني العاصمة السعودية الرياض ارتفاعا في عدد السكان والسيارات، وكذلك في عدد المصانع، وهي أمور تؤثر على الموارد البيئية المحدودة، خاصة المياه وجودة الهواء والنفايات بأنواعها والبيئة الطبيعية، ما دفع منظمة الصحة العالمية لتصنف الرياض كخامس أكثر المدن تلوثا، بعد الأحواز الإيرانية وأولان باتور المنغولية ولاهور الباكستانية ونيودلهي الهندية، وجاءت أكثر تلوثا من مدن أكثر زحاما منها كالقاهرة ودكا وموسكو ومكسيكو سيتي وحتى من بكين.
وعلى الرغم من الخطط التي تحاول أمانة العاصمة وضعها لحماية البيئة، إلا أنها مازالت غير فاعلة، ويرتفع معدل التلوث عاما بعد عام. "لا يقتصر التلوث في الرياض على ما تبثه المصانع في الهواء من غازات سامة، بل يتجاوزه إلى العواصف الرملية، والملوثات الناجمة عن حركة النقل"، كما يؤكد الخبير البيئي الدكتور عبدالله السديري قائلاً إن "المشكلة تكمن في أكثر من خمسة ملايين سيارة تجوب شوارع الرياض يوميا، وأكثر من 8106 مصانع ومنشآت تنفث غازاتها السامة والمسببة للتلوث البيئي ويتركز معظمها في جنوب العاصمة"، ويقول لـ"العربي الجديد": "في الرياض أكثر من 961 مصنعاً، و272 معملاً، و2901 مستودع، و571 منشأة أخرى، وغالبيتها بدون رقابة، من غير المقبول أن تكون مصانع الإسمنت وسط الأحياء السكنية، وهي من أكثر المصانع تلويثا للبيئة".
تعترف دراسة حديثة أجرتها هيئة تطوير الرياض بارتفاع معدلات تلوث الهواء في جنوب العاصمة، كونها المنطقة التي تمثل عصبا اقتصاديا مهما، كما تشتمل على أنشطة اقتصادية وصناعية كبرى، وتعترف الدراسة التي يستدل بها الدكتور السديري بأن العاصمة تعاني من تدهور بيئي كبير، بسبب ارتفاع معدلات ملوثات الهواء الناتجة من المصانع ووسائط النقل.
محاولات لإنقاذ العاصمة
يحذر متخصصون في شؤون البيئة والصحة من أن الرياض على وشك أن تختنق، في حال عدم التحرك بشكل سريع لإصلاح الخلل الذي بدأت تظهر آثاره السلبية، إذ تحاول الهيئة العليا لتطوير الرياض إعادة تأهيل الوضع البيئي في العاصمة، وخاصة في جنوبها، بخطة تستمر حتى عام 2040، وتهدف إلى معالجة القضايا البيئية والحضرية في المنطقة، وتأهيل كافة المناطق المتضررة والحد من التأثيرات السلبية لمصادر التلوث.
تركز الهيئة على 22 موقعاً تعد الأكثر تعرضا للتلوث، وتسعى لتغيير مواقع مصانع الزجاج وإنتاج وتكرير الزيوت، والصناعات الورقية، والبلاستيكية، والكهربائية، والكيماوية، والغذائية، ومواد البناء الحجر والرخام والطوب والخرسانة، التي تعتبر الأكثر تأثيراً في تلوث الهواء والمياه والتربة عبر ما تصدره من مخلفات صناعية سائلة وصلبة خطرة.
وتحاول الهيئة نقل هذه المصانع إلى أماكن بعيدة عن الرياض، ولكن يبدو هذا الأمر صعبا، ما دفع عضو جمعية البيئة وأستاذ الجيولوجيا في جامعة الملك فهد الدكتور ربيع الغربي للتحذير من خطورة تلوث الهواء في الرياض، محملا ما تطلقه مصانع الإسمنت والكسارات في جنوب العاصمة المسؤولية الأكبر في ما يحدث، يقول الغربي لـ"العربي الجديد": "عندما تجتمع هذه الغازات السامة مع ينتج من عوادم السيارات في الشوارع، والاستخدام الزائد عن الحد للمبيدات الحشرية والمخصبات الزراعية سنجد أنفسنا أمام وضع خطير".
ويشدد الدكتور الغربي على أن التمادي والتساهل مع المصانع، في ما تبث من سموم في الهواء، سيؤدي إلى الكثير من المشاكل الصحية، خصوصاً عندما تصل للمواد الغذائية التي تتشبع حاليا بالكيماويات الخطرة، ويضيف: "بات الهواء الذي يتنفسه سكان الرياض مليئاً بالبكتيريا والفطريات المنبعثة من المركبات والمصانع".
ويعتبر أستاذ الجيولوجيا، الرياض واحدة من أكثر المدن تلوثا في العالم، ويتفق معه في هذا الرأي الدكتور فهد المطيري اختصاصي الأمراض الصدرية في مشفى الملك خالد الجامعي، والذي أكد لـ"العربي الجديد" أن كثرة الملوثات في الهواء زادت من إصابة السعوديين بالأمراض الصدرية، ويقول: "ليست المصانع فقط هي المتهم، بل حتى محطات الكهرباء ترسل ملوثات أكثر سمية في الهواء، فهي تعتمد على حرق الكيروسين والزيت لتشغيل المولدات، وهي أشد تلويثا من عوادم السيارات".
ويعود الدكتور الغربي ليشدد على أن المشكلة الأكبر تكمن في سوء التخلص من بقايا المصانع، فالأمر لا يقتصر على تلويث الهواء بالغازات السامة بل تعداها لتلويث الصحراء ببقايا الصرف الصحي، والنفايات الصناعية، وبقايا الديزل والنفط، ويضيف: "هذه الأمور كلها تسهم في زيادة التلوث، وتدفع لتكاثر أنواع خارقة من الجراثيم، وهي قد تصل إلى المياه الجوفية وهو أمر سيعني أن الماء والغذاء سيكونان غير صالحين للاستخدام البشري، ناهيك عن انتشار الأمراض".
سوء تخطيط
تكشف دراسة هيئة مدينة الرياض أن مصانع الإسمنت هي الأكثر تلويثا للبيئة، فمصنع إسمنت اليمامة الذي يقع جنوب الرياض ووسط الأحياء السكنية يضخ أكثر من 16 ألف طن في السنة من غاز ثاني أكسيد الكبريت، وهو يتساوى مع ما تبثه مصفاة (أرامكو) السعودية التي تقع هي الأخرى جنوب منطقة الرياض، والتي تقوم بتكرير نحو 150 ألف برميل من الزيت الخفيف يومياً.
إضافه إلى هذين المصنعين، رصدت الجهات المختصة أكثر من 94 منشأة تبث الغازات المسممة في الهواء، وتستخدم أنواعا ملوثة من الوقود، بعضها حكومي، مثل محطات توليد الكهرباء ومصفاة الرياض، ولكن المشكلة الأكبر تكمن في مصانع الإسمنت، ومدافن النفايات، ومحطة معالجة مياه الصرف الصحي، والمصانع في المدينة الصناعية الأولى والثانية، وكذلك مصانع الحجر ومواد البناء بطريق الخرج ومصنع الطوب والجير على وادي حنيفة، ومنشآت صناعية في شمال الرياض.
يؤكد الدكتور المطيري على أن آثار هذا التلوث بدأت تظهر، ويقول: "هناك ارتفاع كبير في أعداد المصابين بالربو، وضيق التنفس، وقصور الرئة، وهي أمور ناتجة من ارتفاع نسبة التلوث، ليس في الرياض فقط بل حتى في جدة والمنطقة الشرقية، بدأنا ندفع ثمن سوء التخطيط والسماح للمصانع بالإنتاج في مناطق قريبة من المدن، فبعد عقدين من الزمن وجدنا أن هذه المصانع أصبحت داخل المدن، وباتت غازاتها السامة تنفث في الهواء لتدخل صدور المواطنين مباشرة"، ويضيف: "لابد من تحرك سريع لوضع حل لهذه المشكلة، وإلا تصبح الرياض على الأخص مدينة لا يمكن السكن فيها، وقد يكون ذلك بعد عشر سنوات فقط". خلال هذه المدة، قد يجد الخضيري نفسه يحمل معه أبناءه للطبيب ذاته الذي يعالجه.
--------
اقرأ أيضا :
الزراعة تهدد السعودية بالجفاف بعد 30 عاماً
الخضيري يعد واحدا من عشرات السعوديين ممن يراجعون أطباء الصدر بسبب مشاكل من هذا النوع، خاصة في جنوب الرياض التي تعج بمصانع الإسمنت والمواد الكيماوية، يؤكد الخضيري لـ"العربي الجديد" أنه يعاني كثيرا "جراء التلوث الذي يحيط به، ويفكر جديا في بيع منزله".
ولا يختلف حال فرج الشمري عن الخضيري كثيرا، هو الآخر عاني من مشاكل في الصدر منذ أن انتقل إلى حي الشفاء في جنوب الرياض، يقول الشمري الذي بدا أكثر استياء من الوضع: "نعيش وسط تلوث غير طبيعي، في كل يوم يزيد معدل تلوث الهواء، ناهيك عن الروائح الكريهة التي تعج بالمكان بسبب منطقة الصرف الصحي الموجودة في جنوب الرياض".
الرياض.. خامس مدن العالم تلوثاً
تعاني العاصمة السعودية الرياض ارتفاعا في عدد السكان والسيارات، وكذلك في عدد المصانع، وهي أمور تؤثر على الموارد البيئية المحدودة، خاصة المياه وجودة الهواء والنفايات بأنواعها والبيئة الطبيعية، ما دفع منظمة الصحة العالمية لتصنف الرياض كخامس أكثر المدن تلوثا، بعد الأحواز الإيرانية وأولان باتور المنغولية ولاهور الباكستانية ونيودلهي الهندية، وجاءت أكثر تلوثا من مدن أكثر زحاما منها كالقاهرة ودكا وموسكو ومكسيكو سيتي وحتى من بكين.
وعلى الرغم من الخطط التي تحاول أمانة العاصمة وضعها لحماية البيئة، إلا أنها مازالت غير فاعلة، ويرتفع معدل التلوث عاما بعد عام. "لا يقتصر التلوث في الرياض على ما تبثه المصانع في الهواء من غازات سامة، بل يتجاوزه إلى العواصف الرملية، والملوثات الناجمة عن حركة النقل"، كما يؤكد الخبير البيئي الدكتور عبدالله السديري قائلاً إن "المشكلة تكمن في أكثر من خمسة ملايين سيارة تجوب شوارع الرياض يوميا، وأكثر من 8106 مصانع ومنشآت تنفث غازاتها السامة والمسببة للتلوث البيئي ويتركز معظمها في جنوب العاصمة"، ويقول لـ"العربي الجديد": "في الرياض أكثر من 961 مصنعاً، و272 معملاً، و2901 مستودع، و571 منشأة أخرى، وغالبيتها بدون رقابة، من غير المقبول أن تكون مصانع الإسمنت وسط الأحياء السكنية، وهي من أكثر المصانع تلويثا للبيئة".
تعترف دراسة حديثة أجرتها هيئة تطوير الرياض بارتفاع معدلات تلوث الهواء في جنوب العاصمة، كونها المنطقة التي تمثل عصبا اقتصاديا مهما، كما تشتمل على أنشطة اقتصادية وصناعية كبرى، وتعترف الدراسة التي يستدل بها الدكتور السديري بأن العاصمة تعاني من تدهور بيئي كبير، بسبب ارتفاع معدلات ملوثات الهواء الناتجة من المصانع ووسائط النقل.
محاولات لإنقاذ العاصمة
يحذر متخصصون في شؤون البيئة والصحة من أن الرياض على وشك أن تختنق، في حال عدم التحرك بشكل سريع لإصلاح الخلل الذي بدأت تظهر آثاره السلبية، إذ تحاول الهيئة العليا لتطوير الرياض إعادة تأهيل الوضع البيئي في العاصمة، وخاصة في جنوبها، بخطة تستمر حتى عام 2040، وتهدف إلى معالجة القضايا البيئية والحضرية في المنطقة، وتأهيل كافة المناطق المتضررة والحد من التأثيرات السلبية لمصادر التلوث.
تركز الهيئة على 22 موقعاً تعد الأكثر تعرضا للتلوث، وتسعى لتغيير مواقع مصانع الزجاج وإنتاج وتكرير الزيوت، والصناعات الورقية، والبلاستيكية، والكهربائية، والكيماوية، والغذائية، ومواد البناء الحجر والرخام والطوب والخرسانة، التي تعتبر الأكثر تأثيراً في تلوث الهواء والمياه والتربة عبر ما تصدره من مخلفات صناعية سائلة وصلبة خطرة.
ويشدد الدكتور الغربي على أن التمادي والتساهل مع المصانع، في ما تبث من سموم في الهواء، سيؤدي إلى الكثير من المشاكل الصحية، خصوصاً عندما تصل للمواد الغذائية التي تتشبع حاليا بالكيماويات الخطرة، ويضيف: "بات الهواء الذي يتنفسه سكان الرياض مليئاً بالبكتيريا والفطريات المنبعثة من المركبات والمصانع".
ويعتبر أستاذ الجيولوجيا، الرياض واحدة من أكثر المدن تلوثا في العالم، ويتفق معه في هذا الرأي الدكتور فهد المطيري اختصاصي الأمراض الصدرية في مشفى الملك خالد الجامعي، والذي أكد لـ"العربي الجديد" أن كثرة الملوثات في الهواء زادت من إصابة السعوديين بالأمراض الصدرية، ويقول: "ليست المصانع فقط هي المتهم، بل حتى محطات الكهرباء ترسل ملوثات أكثر سمية في الهواء، فهي تعتمد على حرق الكيروسين والزيت لتشغيل المولدات، وهي أشد تلويثا من عوادم السيارات".
ويعود الدكتور الغربي ليشدد على أن المشكلة الأكبر تكمن في سوء التخلص من بقايا المصانع، فالأمر لا يقتصر على تلويث الهواء بالغازات السامة بل تعداها لتلويث الصحراء ببقايا الصرف الصحي، والنفايات الصناعية، وبقايا الديزل والنفط، ويضيف: "هذه الأمور كلها تسهم في زيادة التلوث، وتدفع لتكاثر أنواع خارقة من الجراثيم، وهي قد تصل إلى المياه الجوفية وهو أمر سيعني أن الماء والغذاء سيكونان غير صالحين للاستخدام البشري، ناهيك عن انتشار الأمراض".
سوء تخطيط
تكشف دراسة هيئة مدينة الرياض أن مصانع الإسمنت هي الأكثر تلويثا للبيئة، فمصنع إسمنت اليمامة الذي يقع جنوب الرياض ووسط الأحياء السكنية يضخ أكثر من 16 ألف طن في السنة من غاز ثاني أكسيد الكبريت، وهو يتساوى مع ما تبثه مصفاة (أرامكو) السعودية التي تقع هي الأخرى جنوب منطقة الرياض، والتي تقوم بتكرير نحو 150 ألف برميل من الزيت الخفيف يومياً.
إضافه إلى هذين المصنعين، رصدت الجهات المختصة أكثر من 94 منشأة تبث الغازات المسممة في الهواء، وتستخدم أنواعا ملوثة من الوقود، بعضها حكومي، مثل محطات توليد الكهرباء ومصفاة الرياض، ولكن المشكلة الأكبر تكمن في مصانع الإسمنت، ومدافن النفايات، ومحطة معالجة مياه الصرف الصحي، والمصانع في المدينة الصناعية الأولى والثانية، وكذلك مصانع الحجر ومواد البناء بطريق الخرج ومصنع الطوب والجير على وادي حنيفة، ومنشآت صناعية في شمال الرياض.
يؤكد الدكتور المطيري على أن آثار هذا التلوث بدأت تظهر، ويقول: "هناك ارتفاع كبير في أعداد المصابين بالربو، وضيق التنفس، وقصور الرئة، وهي أمور ناتجة من ارتفاع نسبة التلوث، ليس في الرياض فقط بل حتى في جدة والمنطقة الشرقية، بدأنا ندفع ثمن سوء التخطيط والسماح للمصانع بالإنتاج في مناطق قريبة من المدن، فبعد عقدين من الزمن وجدنا أن هذه المصانع أصبحت داخل المدن، وباتت غازاتها السامة تنفث في الهواء لتدخل صدور المواطنين مباشرة"، ويضيف: "لابد من تحرك سريع لوضع حل لهذه المشكلة، وإلا تصبح الرياض على الأخص مدينة لا يمكن السكن فيها، وقد يكون ذلك بعد عشر سنوات فقط". خلال هذه المدة، قد يجد الخضيري نفسه يحمل معه أبناءه للطبيب ذاته الذي يعالجه.
--------
اقرأ أيضا :
الزراعة تهدد السعودية بالجفاف بعد 30 عاماً