ترحيل "داعش" إلى المستقبل
ذات مقال، كتب وزير الخارجية الأميركي الأسبق، هنري كسينجر: "قبل كل شيء تقدم الكارثة قناعة بأن بعض افتراضات العالم المعولم التي تؤكد قيم التوافق والانسجام والمزايا النسبية، لا تنطبق على ذلك الجزء من العالم الذي يلجأ إلى الإرهاب". هذا الجزء انحصر في منطقتنا التي عدت مكاناً موائما لتفريخ المنظمات الإرهابية التي تهدد الغرب بـ"حضارته وثقافته".
إذن، نحن شعوب إرهابية!
لكن، كسينجر نسي أو تناسى، أن سياسة القوى العظمى، قبل أن تأتي المنظمات الراديكالية لتهدد حياة الناس في الشرق الأوسط، شرعت لأنظمة المنطقة مواجهة شعوبها بواسطة متوالية منهجية من أساليب الاستبداد، والعنصرية، والطائفية، والعشائرية، والإرهاب، ومنع الحريات، وحرمان الشعوب من أقل حقوقها، ما أسهم في إسقاط آمالها وتطلعاتها، لحياة أفضل، فهم، في نظر أنظمتهم، غير قادرين على حكم أنفسهم، أو غير جديرين بهذه الثروة.
الميزة هذه شملت الجميع، وإنْ بصورة متفاوتة بعض الشيء، فمن المغرب إلى باكستان، ابتدعت الأنظمة مشاريع وبرامج لا لتنمية المجتمعات، بل للحفاظ على كراسيها ومكتسباتها، بالاعتماد على أجهزة أمنية إرهابية، وأسر حاكمة تابعة. ففي كل بلد، هناك عشرات الأجهزة الأمنية والمخابراتية، تحاصر الشعب حتى في عقر بيته، وفي كل دولة أسر حاكمة تعتمد عليها الأنظمة لفرض سيطرتها، ما جعل الدول تصير أشبه بمستعمرات أسرية، تخضع للقوانين الأمنية. هذا المنهج لم تختلف تفاصيله، منذ تأسيس هذه الدول، فالخطط والأهداف قد تخضع لتبديل. لكن، تبقى السياسة ثابتة، لا تخضع للتغيير، هذه الأساليب عملت على تعطيل سبل التطوير والتقدم والاصلاح، وفي المقابل إحلال مشاريع عدمية تخضع الشعوب، وأخرى تسلحية، وجهت فوهات بنادقها صوب الشعوب، لا الأعداء. منذ ذلك الحين، توالت المحن الواحدة تلو الأخرى، ولم تنته بعد.
وبعد حين من زمن دعم بعض الأنظمة منظمات إرهابية، تحول المجاهدون إلى إرهابيين. بدون مقدمات، نُقل هؤلاء من خانة الولاء المطلق إلى خانة العداء المطلق، وبات استئصال شآفتهم واجباً دينياً، فهم تهديدٌ للأمن والسلم العالمي. فما الذي حصل؟ الأسلوب الذي اتبعته أنظمة المنطقة، آنذاك، آثمرت نتائجه خلال السنوات والعقود التالية، إذ وجدت المنظمات نفسها أمام خطط ومناهج قاتلة، تعتمد أسس التهميش، والنبذ المجتمعي لها، وثمة خطط ترى أن التخلص منها ضرورة حتمية. بدورها، لم تجد المنظمات أمامها خيارات، إذ قبلت التحدي، وواجهت الحكومات، لتشهد المنطقة سلسلة من الأحداث الدامية، لم تنته بعد. دعوة هؤلاء لقيت ترحيباً كبيراً من أطياف واسعة شكلت حواضن مجتمعية وفكرية لهم، تتقبل وجودهم، وتنظر إلى أعمالهم بعين من القبول والرضا.
وإن كان الحل السحري يكمن في قصف تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" والتوقف عند حدودها، من دون طرح السؤال عن البديل القادم بعدها، وأين، وكيف؟ وهل ستنطلق شبيهات داعش من قلب الدول التي أسستها ودعمتها مثلاً، أم تراها تظهر في دول الأطراف؟
عاجلاً أم آجلاً، لا بد أن تنتهي العمليات الحربية المكانية ضد تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، بحكم أن "المهمة قد أنجزت"، لكن الواقع يقول إن ما يجري، الآن، سيسهم في ترحيل المشكلة للمستقبل الزماني. وإن أرادت واشنطن التخلص من "داعش"، لا بد أن تتخلص، في الوقت عينه، من دعمها المتصل للأنظمة الديكتاتورية والانقلابية في المنطقة، فالإرهاب لا يتجزأ، وليس هناك وجه إرهاب جميل وآخر قبيح.