الصناديق مكدّسة أمام المكتبة الكبيرة. أحجامها تختلف وقد حَوَت أمتعة كثيرة وبعضاً من الروح. في ركن آخر من غرفة الجلوس الكبيرة، كنبة بنيّة اللون حفظت رائحة أعزّاء مرّوا في المكان وطاولة خشبيّة واطئة تشرّبت بعضاً من قهوة صباحيّة فيما خلّفت شمعة ذائبة بقعة دائريّة غير متّسقة في وسطها.
أغطية وسادات الكنبة بهتت ألوانها وقد امتصّها فضاء ذلك المسكن. فأشعّة الشمس الحادة نالت منها خلال سنوات ستّ انقضت سريعة. هل يدرك ساكن المنزل الجديد تلك الألوان في فضائه؟ هل يفطن للروائح التي تختلط بتلك الألوان؟ رائحة أوراق الكتب التي ما زالت مكدّسة في المكتبة الكبيرة في انتظار توضيبها، ورائحة أزهار بنفسجيّة اللون بقيت تزيّن المكان لأيّام، ورائحة قهوة كانت توقظ صباحات متثاقلة، ورائحة تبغ اختلطت مع عطور خلّفها أعزّاء في أرجاء ذلك المسكن الذي كان في يوم بيتاً لنا.. أو هكذا ظننا.
ونوضّب في تلك الصناديق مقتنيات كثيرة نتشبّث بها. نأبى التخلّي عن أيّ منها، كأنّما في الأمر تخلّ عن قليل أو كثير من ذاتنا في ذلك المكان. بعض تلك المقتنيات تَهشّم لسبب أو لآخر، خلال السنوات المنقضية، فنتعهّد لأنفسنا بجمعه وترميمه فور استقرارنا في المسكن الجديد. في ذلك رتق لروحنا التي كلّما ارتحلنا من فضاء إلى آخر، نجدها وقد تهشّمت أكثر.
ونوهِم أنفسنا بالاستقرار. في المسكن الجديد محطّة جديدة. لا بدّ من أن نبلغ هناك الاستقرار المنشود. وذلك المسكن الجديد قد يكون البيت المرتجى أو مجرّد نقطة عبور في ترحالنا الطويل. مكتوب علينا ذلك الترحال. فيه نبحث عن ذاتنا. ذاتنا التي كلّما ارتحلنا، تخلّينا عن بعض منها حيث حللنا، عن قصد أو عن غير قصد. هناك، حيث حللنا، بعض من ذوات آخرين وروائح وألوان خلّفها هؤلاء في المكان.
ونبحث عن مسكن لم يأهله أحد قبلنا. كأنّ في ذلك ضمانة لرتق روحنا والعودة إلى ذاتنا بعيداً عن أطياف سبق وسكنت الفضاء المختار. هو فضاؤنا نحن، وفيه سوف نعثر على استقرارنا.. لا شكّ في ذلك. ويحيينا الأمل. هو الأمل نفسه الذي هشّمنا في الماضي مراراً وتكراراً، وقد خيّب أحلاماً كثيرة كانت تسكننا وتدفعنا إلى المضيّ قدماً على الرغم من خيبات ما زالت ندوبها بيّنة.
في ذلك المسكن الذي لم يأهله أحد قبلنا، ربّما نكون باحثين عن انطلاقة جديدة وقد حسمنا أمر تخلّينا عن ماضٍ لطالما أثقلنا. نحن لا نرغب في رتق تلك الروح ولا العودة إلى تلك الذات. ربّما لم تكن تلك الروح روحنا. ربّما لم تكن تلك الذات ذاتنا. ربّما كانت مزيج أرواح أو ذوات خلّفها آخرون سبق وسكنوا تلك الفضاءات التي ظننّا أنّنا وجدنا في يوم استقرارنا فيها وسمّيناها بيوتنا. ونرتحل من جديد...