"القصة لم يعد في الإمكان إخفاؤها". يبدو أنّ السلطات الرسمية بدأت تتنبّه لمشكلة المترجمين الذين يعوّقون حصول المهاجرين طالبي اللجوء على إقامات في البلدان التي قصدوها هاربين من جحيم أوطانهم.
القضية مثار الجدال لا تتعلق فقط بمملكة الدنمارك التي تستقبل بضعة آلاف من طالبي اللجوء بالمقارنة مع مئات آلاف في السويد وألمانيا والنمسا. طالب اللجوء أينما كان ومهما كانت جنسيته، لا يمكنه التواصل مع السلطات في أكثر من بلد لجوء، إلا من خلال مترجمين، وإن كان يتحدث لغة أخرى.
وتتكرر شكوى طالبي اللجوء في أكثر من بلد وتأتي متشابهة، وسط فئة من المترجمين المتحيّزين الذين يتجاوزون وظيفتهم ويخلطون بين "حب وبغض" طالب اللجوء وخلفيته، وقد يصل الأمر إلى عمليات تلاعب انكشف بعضها بعد تحقيق في قضايا معيّنة. والتسليط على الدنمارك كمثال على ما يجري في عدد من الدول، يأتي لأسباب تتعلق بمدى استفحال هذه الظاهرة هنا والتي تترافق مع توجّه سياسي رافض في الأساس لطالبي اللجوء الإريتريين على سبيل المثال. وهو ما يدفع هؤلاء إلى الشعور بخوف وعدم ثقة في سرد قصصهم بسبب وجود أهلهم تحت التهديد في الوطن.
خالد أسمر مقيم في الدنمارك على أساس لمّ شمل من لبنان، توجّه في أحد الأيام إلى المستشفى لإجراء فحوصات بسبب ألم دائم في معدته. وبما أنّه لا يتحدث اللغة الدنماركية، اصطحب معه شابة تعمل في شركة للترجمة. بعد تبلّغه بالنتائج التي خلص إليها الأطباء، خرج وهو يندب حظه إذ أخبرته المترجمة بأنّه يعاني من التهاب فيروس الكبد الوبائي. في الحقيقة، لم يكن الأمر سوى ترجمة خاطئة لـ"قرحة المعدة". في واقعة أخرى، كانت امرأة مهاجرة تراجع طبيبها الذي اكتشف أنّها حامل وراح يشرح لها عبر مترجمة مخاطر الحمل على حياتها إذ هي تعاني مرضاً خطيراً وقد سبق لها أن أنجبت قبل سنوات. ماذا فعلت المترجمة؟ خلطت بين معتقداتها الشخصية المعارضة للإجهاض وبين رأي الطبيب الصارم، من دون أن تخبر المريضة القصة كاملة.
المترجمة في الحالة الأولى كانت قريبة خالد أسمر، ولم تكن مؤهلة لعملها بل مسجّلة في إحدى الشركات المهتمة بالربح المالي من دون تدقيق في المؤهلات. أمّا في القضية الثانية التي وصلت إلى المحكمة، فقد تبيّن أنّ المترجمة كاثوليكية متشددة، ولم تتّضح الأمور إلا صدفة حين كانت صديقة المريضة معها في زيارة أخرى للطبيب. فهو استدعاها بعدما فوجئ بعدم ذهابها إلى الموعد المحدد للإجهاض، ورأى ضرورة إدخالها بصورة طارئة إلى المستشفى نظراً إلى حالتها السيئة التي استدعت إجراء عملية جراحية مستعجلة.
والقصص التي تكثر في أروقة المستشفيات والمحاكم وفي أقسام الشرطة وغيرها من المؤسسات، باتت منذ عامَين تثير حفيظة القضاة والمستشفيات. وقد راحت صحف محلية بين حين وآخر تثير هذا الموضوع وتدنّي مهنيّة المترجمين، مع إبراز أخطاء بعض المترجمين وغياب المصداقية والحيادية المطلقة والتقيّد بأخلاقيات المهنة، الأمر الذي أدّى إلى توتّر العلاقة بين لاجئين/ مهاجرين وبين الجهات المعنيّة التي يتواصلون معها من خلال المترجمين.
تدخّل في القصص
الترجمة الخاطئة أو عدم توفّر مؤهّلات لدى بعض المترجمين الذين يثيرون جدالاً منذ سنوات في المستشفيات وعند الأطباء وفي المحاكم (قضايا جنائية واجتماعية)، ليست هي الأسوأ. ثمّة ما هو "أخطر من ذلك بكثير" وفقاً لمحام دنماركي متخصص في شؤون الهجرة. ويوضح المحامي الذي فضّل عدم الكشف عن هويته، أنّ ثمّة مترجمين "لا يتورّعون عن إلحاق الضرر بطالبي اللجوء، حتى قبل حصولهم على الإقامة".
ويقول حسان وهو لاجئ سوري، إنّه في فترة التحقيق الأولى والفترة الثانية كذلك، "يُدخل البعض انتماءاته الدينية والقومية وأفكاره السياسية لتدمير أرضيّة اللجوء". ويخبر حسان الذي وصل إلى الدنمارك في عام 2015 بعدما فرّ من دمشق، أنّه وجد نفسه أمام "مترجم يُحرّف ما أقوله؟ وبدلاً من أن ينقل قصتي وبأنّني مطلوب من قبل النظام، جعلني أبدو مؤيداً له وبأنّني كنت أعيش حياة عادية في سورية". ولأنّ حسان كان يجيد الإنكليزية، اكتشف "حجم الكارثة" وأبلغ محققيه بأنّ "خطأ فادحاً قد وقع. بالتالي رُفعت قضية عن طريق منظمة مساعدة اللاجئين لإعادة النظر في أقوالي".
في السياق، كان "المترجم المصري" وهو مهاجر قبطي قديم، يشوّه قصص أشخاص مصريين مطلوبين منذ عام 2013 في بلادهم، ومن بين هؤلاء مهندسون وأطباء ورجال أعمال. كذلك وجد عرب آخرون، لبنانيون وفلسطينيون وسوريون وعراقيون، أنفسهم أمام أخطاء في ترجمة قصصهم.
مهاجرون إريتريون في الدنمارك (ناصر السهلي) |
إريتريون ضحايا اضطهاد مزدوج
إلى ذلك، وجدت السلطات الدنماركية نفسها في ورطة مع اللاجئين الإريتريين. ففي حين كانت تتجه إلى رفض منحهم إقامات من ضمن توجّه اسكندنافي متّفق عليه ضمنياً قبل عامَين، كشف تحقيق سياسي (من جهة اليسار) أنّ ترجمة قصص الشباب الإريتريين وأسباب لجوئهم أتت معاكسة للواقع. بالتالي، وتحت ضغط سياسي اكتُشف أنّ "المترجمين الإريتريين، ليس فقط في الدنمارك بل في عدد من دول الشمال الأوروبي، هم من المهاجرين المتعاطفين مع نظام الحكم في أسمرة". هذا ما يوضحه محام دنماركي مهتم بقضايا هذه الفئة من طالبي اللجوء.
ويقول محمد غيلي لـ"العربي الجديد" إنّ "هؤلاء (مترجمي قضايا اللجوء) من بينهم مَن يعمل مع النظام وينقل ما يراه، الأمر الذي يمثّل مزيداً من الضغوط النفسية خوفاً من تعرّض أسرهم لاضطهاد في البلاد (إريتريا)". وللتأكد من كلام غيلي، كان لـ "العربي الجديد" حديث مع محام دنماركي يترافع أمام مجلس اللجوء تحفّظ على ذكر اسمه. يؤكد هذا المحامي أنّه "منذ عام 2015 كُشِف عن هذا المأزق. فقد أثيرت شكوك حول مصداقية أسس لجوء هذه الفئة المضطهدة (الإريتريين). وبعد بالتعمّق، وجدنا أنّ بعض هؤلاء لا يملك الشجاعة لقول كلّ شيء أمام المترجمين خوفاً من تبعاته على الأهل في الوطن".
ويوضح المحامي الضليع بقضايا اللاجئين والذي يساعدهم أمام السلطات الرسمية ويقدّم استشارات مجانية في عدد من الدول الشمالية، أنّه "لا شكّ فيه أنّ هذا الخوف أثّر على البحث في قضايا لجوئهم، إذ إنّهم خائفون من قول كلّ الحقيقة عن مسار هروبهم من بلادهم". وكانت "العربي الجديد" قد اطّلعت في وقت سابق من لاجئين إريتريين، على "فساد في تسهيل عملية خروج بعض الشباب من إريتريا، إذ يقوم الأمر على مساومات من قبل عاملين في أجهزة أمنية، يكون فيها اللاجئ مديناً بمال لهؤلاء. وبعد حصوله على الإقام يرسل المبالغ المتوجّبة عليه لعائلته عبر البريد السريع، وهي بدورها تدفع لهؤلاء الأشخاص".
وكانت صحيفة "بوليتيكن" المحلية قد كشفت في ديسمبر/ كانون الأول من عام 2014 عن "تقدّم مجموعة من الشباب الإريتريين بشكوى، بالتعاون مع موظفين في الصليب الأحمر في مركز إيواء للاجئين شمالي كوبنهاغن، في حقّ مترجمين هدّدوا الشباب مطالبينهم بالصمت حول أوضاع بلادهم". قُدّمت الشكوى إلى منظمة "عون اللاجئين" (منظمة رسمية مسؤولة عن أوضاع اللاجئين)، ونتيجة ذلك جرى "وقف استخدام بعض هؤلاء المترجمين الذين ثَبُت أنّهم ليسوا حياديّين"، وفقاً لما قاله مسؤول التواصل في المنظمة الدنماركية بيتر هيرمان كامف.
ويخبر رجل إريتري "العربي الجديد" أنّ "طالب اللجوء يبدأ بشرح مسببات هروبه من بلده. وحين يصل إلى ما تعرّض له على يد النظام بسبب نشاط سياسي، تتدخّل المترجمة لتقول له حرفياً: لماذا تقول ذلك؟ أفضل لك ولعائلتك أن تكون ذكياً ولا تذكر هذه الأمور". يضيف أنّ "الشخص يشعر حينها برعب. ويقول في سرّه: أن يحدث لي ذلك في كوبنهاغن يشير إلى أنّ أذرع النظام طويلة. قد لا يستطيع فعل شيء لي، بيد أنّ المرعب هو الانتقام من أسرتي". محدّثنا حصل على إقامة في الدنمارك بعدما لجأ إلى أحد رجال السياسة اليساريين، "لكنّني ما زلت خائفاً على أسرتي وأسعى إلى إخراجها من البلاد".
تجمّع للمهاجرين وداعميهم في الدنمارك (ناصر السهلي) |
غياب المهنية والتقيّد بأخلاقياتها
من جهتها، تنتقد منظمة "أهلاً باللاجئين" بشدّة استخدام مترجمين "معروف أنّهم متعاطفون مع أنظمة قمعيّة يهرب منها اللاجئون. لقد عبّر لاجئون في أكثر من مناسبة عن عدم رغبتهم في أن يترجم لهم أشخاص معيّنون مشكوك في حياديتهم، لكن للأسف طالب اللجوء ليس هو من يقرّر".
أمّا منظمة "محامو قوانين الهجرة" (طوعية مجانية) فأشارت إلى أنّه "بعد تزايد الشكاوى، بدأت قيادة الشرطة الوطنية (المسؤولة عن تسجيل المترجمين رسمياً في قضايا اللجوء والمحاكم)، بتشديد بعض مطالبها الخاصة بالمترجمين الذين يفترض بهم أن يكونوا مهنيّين ويتّبعون أخلاقيات الترجمة وسرية المعلومات بصورة رئيسية".
في السياق، تقول الخبيرة في تقنيات الترجمة ستينا ياكوبسن (متقاعدة) إنّ "هذه المشكلة تتعلق بالترجمة الشفوية بصورة أساسية، لأنّ في المكتوبة ثمّة طرقا للتأكد. وتكمن المشكلة في أنّ كثيرين من دون خبرة ولا مؤهلات يدخلون إلى سوق الترجمة. ولا أريد أن أكون قاسية، لكنّني اطّلعت من قبل أصدقاء على قضية أحد المترجمين المرتبطين بعلاقة ممتازة مع سفارة بلد اللاجئين وهو يسافر أكثر من مرة سنوياً كسائح. لا أفهم كيف يكون محايداً وأميناً في نقل حقيقة ديكتاتورية النظام وقمع هؤلاء المساكين". تضيف: "إلى جانب ذلك، ثمّة مترجمون غير مدرّبين وربما لا يعرفون كثيراً عن تقنيات الترجمة".
وتفيد خبيرة تدريس المترجمين لعشرين سنة، الباحثة بنتا ياكوبسن، من جهتها بأنّ "بعض هؤلاء المترجمين، ولعدم معرفة المحقيين باللغة العربية على سبيل المثال، يتحوّلون إلى أشخاص مركزيّين متحكمين في قضايا اللجوء. وبعضهم يستغل موقعه وتلك الحاجة للترويج لأفكاره الشخصية النمطية المسبقة بحسب موقفه من دولة المنشأ ونظامها السياسي". وياكوبسن التي تابعت دراستها الجامعية في "أخلاقيات المهنة"، ترى أنّ "كثيرين أصبحوا طارئين على المهنة، فيقفزون إلى عربتها دون معرفة أخلاقيات الترجمة كعصب لكلّ المهمة في نقل ما لدى طالبي اللجوء".
أمّا دائرة الهجرة في كوبنهاغن فتعلّق على "تحيّز وعدم حيادية المترجمين المعترف بهم من قبل الدولة" من خلال مدير مكتب الاتصال بمجموعات المترجمين، بيورن هورنينغ، الذي يقول إنّ "الدائرة منتبهة لوجود هذه المشكلة. ونودّ بالتأكيد الحصول من الجميع على معلومات عن هؤلاء المترجمين الذين يتجاوزون الخطوط المرسومة للعمل. وسوف نرد عليها فورا". يضيف: "لدينا رجال قانون مختصون ولديهم توجيهات واضحة برفع القضايا فوراً في حال بروز مشكلات بين طالبي اللجوء والمترجمين". ومن يقصدهم بيورن هورنينغ هم هؤلاء الذين يقحمون ميولهم، سواء أكانت سياسية أم دينية أم عرقية أم فكرية، ويبتعدون عن المهنية والحياد في ترجمة قضايا الناس كما هي من دون أحكام وتحيّز على حساب مصالح ومستقبل كثيرين ممّن يجدون أنفسهم، يفقدون الثقة بمحيطهم وإمكانية تصحيح الأخطاء.
وتشدّد ياكوبسن على "وجوب أن يتشجّع من يشعر بأنّ حقه مهضوم، حتى لو شعر بتهديد، ويتوجّه إلى مكاتب الخدمة القانونية المجانية، راتس ييلب، حيث يمكن لبعض موظفيها أن يتحدثوا مثلاً باللغة العربية وغيرها من اللغات، لطرح الموضوع بكلّ ثقة. ويمكن كذلك لهؤلاء المتضررين أن يلجؤوا إلى ناشطين وناشطات في مجالات سياسية واجتماعية، كمنظمات مساعدة اللاجئين والترحيب باللاجئين، لطلب العون".