في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، عاد ترام تقسيم إلى سكّته في تركيا، بعد عملية صيانة وترميم استمرّت نحو عام. أتى ذلك قبيل الاحتفال بذكرى تأسيسه في الشطر الأوروبي من إسطنبول.
قبل 105 أعوام، وُضِع ترام تقسيم في خدمة مدينة إسطنبول، ولم تفوّت المديرية العامة لإدارة الأنفاق والترام الكهربائي تلك المناسبة، فاحتفلت بها في منطقة باي أوغلو. في خلال الاحتفال، سرد نائب مدير إدارة الأنفاق والترام الكهربائي في إسطنبول، حسن أوزجليك، حكاية شبكة سكك الحديد في المدينة، فتحدّث على البداية عن تأسيس شركة "در سعادت" لخطوط الترام في عام 1869، وعن أوّل ترام كانت تجرّه الأحصنة في إسطنبول في عام 1871 ويربط بين منطقتَي أزاد قابي وبيشكطاش. أضاف أنّه في عام 1914، تحديداً في 11 فبراير/ شباط، تأسّس أوّل خط ترام كهربائي، مفتخراً بأنّ طول سكك الحديد في المدينة يبلغ اليوم 170 كيلومتراً. وأشار أوزجليك إلى أنّ العمل مستمر على 285 كيلومتراً إضافياً، ليصل طول سكك الحديد بإسطنبول إلى نحو ألف كيلومتر في الذكرى المئوية الأولى لتأسيس الجمهورية في عام 2023.
ما هي حكاية ترام تقسيم الذي لا يفوّت زائر ولا سائح ركوبه انطلاقاً من ميدان تقسيم مروراً بشارع الاستقلال ووصولاً إلى منطقة باي أوغلو التي تُعَدّ من أبرز معالم المدينة وأكثرها جذباً للزائرين؟
في 29 ديسمبر/ كانون الأول 2018، عاد ترام تقسيم لينقل ركّابه الذين يُقدَّر عددهم يومياً بنحو ألفَين و500 راكب. بذلك، يواصل رحلته بعرباته الحمراء التي أُخرجت من المتحف في عام 1989 بعد ترميمها. يُذكر أنّ خط الترام الذي يصل شارع الاستقلال بمنطقة كراكوي يعمل منذ 139 عاماً ويُعَدّ الخط الثاني الأقدم في العالم بعد خط ترام لندن، بحسب ما تروّج بلدية إسطنبول. ولعلّ أهمية ترام تقسيم تكمن في المناطق التي يتنقّل بينها، فهو ينطلق يومياً من ميدان تقسيم في الساعة السابعة والنصف صباحاً ناقلاً الركاب بعربته الوحيدة إلى منطقة باي أوغلو عبر شارع الاستقلال، ويستمرّ على هذه الحال حتى الساعة العاشرة ليلاً.
في زمن الدولة العثمانية، أطلق السلطان محمود الأول اسم "تقسيم" على ذلك الميدان الذي كان يحوي كلّ خطوط المياه الأساسية قبل أن تقسّم على أحياء مدينة إسطنبول. كذلك، يُربط اسم الميدان بنوع من المقامات الموسيقية التركية. وهذا الميدان شهد أحداثاً كثيرة، لا سيّما تظاهرات سياسية احتجاجية، في حين أنّه ما زال الملتقى الأبرز للسيّاح الذين يقصدون "مدينة المآذن" من كلّ أنحاء العالم.
أمّا شارع الاستقلال، فهو خزّان منطقة تقسيم البشري، ويمتدّ من الميدان حتى النفق الذي يربطه بمنطقة كراكوي، مروراً بمنطقة باي أوغلو في القسم الأوروبي من إسطنبول. ويصنّف شارع الاستقلال واحداً من أبرز الأماكن السياحية في المدينة ويعبّر عن الخصوصية التركية... الاختلاف. إلى جانب المساجد، يشتهر الشارع بملاهيه الليلية ومحلات بيع الخمور والحانات والمطاعم، فضلاً عن المحال التجارية التي تختلف طبيعتها والمباني الأثرية والمكتبات والمصارف ودور السينما وقنصليات وسفارات أجنبية، فيبدو "الاستقلال" كأنّه مدينة في شارع وليس شارعاً في مدينة.
من جهتها، تُعَدّ منطقة باي أوغلو مركزاً للفنون والترفيه والحياة الليلية، علماً أنّها كانت من معالم القسطنطينية المهمّة، وكانت تُعرَف باسم "بيرا" (أي الجهة الأخرى) قبل إعلان الجمهورية. وتشير كتب التاريخ إلى أنّ بيرا تحوّلت في عام 1204 إلى مستعمرة إيطالية مع حركة تجارية ناشطة، فقد مثّلت قاعدة رئيسية للتجار الوافدين من أوروبا. وفي عام 1348، بنى حكام جنوى الذين كانوا يسيطرون على المنطقة واحداً من أشهر معالم المدينة برج غلطة، وظلوا مسيطرين عليها حتى دخول العثمانيين إلى القسطنطينية في عام 1453. لم يخبُ وهج بيرا مع دخول العثمانيين، وما زالت حتى اليوم الجزء الأكثر شبهاً بأوروبا في إسطنبول. وهذه المنطقة هي كذلك الأسرع تطوّراً، فهي وبحسب ما يُحكى المنطقة الأولى التي مُدّدت فيها شبكات الكهرباء والهاتف والترام، وأنشئت المدارس التي عُدّت الأرقى في البلاد.
تجدر الإشارة إلى أنّ منطقة باي أوغلو تأثّرت تماماً كما هي حال تركيا في خلال الحرب العالمية الأولى وبعد التحوّل إلى الجمهورية، فتراجعت شعبيتها واستقطابها للسيّاح والأوروبيين، قبل أن تستعيد في خلال العقدَين الأخيرَين ألقها. ولا يمكن لأحد أن يفوّت مشهد الزائرين والسياح وهم يلتقطون صوراً لإسطنبول لا يمكن توثيقها إلا من برج غلطة.