لم تعد المواجهة بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، مقتصرة على الجبهة التجارية، وإنما تمتد إلى العمق، لتطاول ركائز الاقتصاد في أكبر اقتصادين في العالم، ما ينذر بإطالة أمد الصراع، الذي لن يكون سهلاً في ظل الصمود الذي تبديه بكين في مواجهة الضغوط المتزايدة من قبل إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
فقد كشفت وكالة أنباء الصين الجديدة "شينخوا" مساء السبت الماضي، أن "الحكومة الأميركية قدمت على طاولة المفاوضات عدداً من المطالب المتغطرسة للصين من بينها الحدّ من نموّ المشروعات المملوكة للدولة".
وأضافت: "هذا أمر يتجاوز بشكل واضح مجال المفاوضات التجارية ويمسّ النظام الاقتصادي الأساسي للصين، وهذا يثبت أن الولايات المتحدة تحاول من وراء حربها التجارية مع الصين غزو السيادة الاقتصادية الصينية، وإجبار الصين على أن تلحق الضرر بمصالحها الأساسية".
وتصاعدت حدة التوترات التجارية بين واشنطن وبكين في وقت سابق من مايو/ أيار الجاري، بعد أن أمر ترامب ببدء زيادة الرسوم الجمركية على جميع الواردات المتبقية من الصين، المقدرة بنحو 325 مليار دولار، وذلك بعد يوم واحد من زيادة الرسوم من 10 إلى 25 في المائة، على بضائع صينية بقيمة 200 مليار دولار، فيما فشلت المباحثات التي جرت بين الفريقين الصيني والأميركي، في كسر الجمود الذي خيّم على المفاوضات التجارية خلال الأسابيع الماضية.
ويصرّ ترامب على موافقة بكين على إجراء إصلاحات هيكلية لاقتصادها وتشريعاتها التجارية، وشراء المزيد من السلع الأميركية، لتصحيح الخلل في الميزان التجاري بين الدولتين، الذي يميل لصالح بكين.
ولم يكتف ترامب بفرض رسوم جمركية على جميع المنتجات الصينية، بل تم فرض حظر على أنشطة شركة هواوي؛ عملاق صناعة الاتصالات الصينية، ولوّح بمزيد من الشروط على بكين، قائلاً في تغريدة منتصف الشهر الجاري، إن على الصين التحرك لإتمام اتفاق تجاري قبل انتخابات بلاده الرئاسية في 2020، ملمحاً إلى أن شروط بلاده مستقبلاً قد تكون أصعب مما هي عليه الآن.
ويبدو من التصعيد الأميركي المتواصل، أن الهدف لم يكن مجرد تقليص عجز الميزان التجاري مع الصين، بل تقويض ثاني أكبر اقتصاد في العالم بمطالب بدأت بكين في الكشف عنها، ومنها الحدّ من نموّ الشركات العملاقة ولا سيما المملوكة للدولة.
وأظهرت بيانات صادرة عن لجنة إدارة الأصول المملوكة للدولة في مارس/ آذار الماضي، أن أرباح الشركات المملوكة للدولة والمدارة مركزياً قفزت بنسبة 16.7 بالمائة خلال العام الماضي 2018 مقارنة بالعام السابق عليه، لتصل إلى 1.7 تريليون يوان (253 مليار دولار).
كما أشارت بيانات صادرة عن اللجنة ذاتها في الثاني والعشرين من مايو/ أيار الجاري، إلى أن إجمالي أصول الشركات المملوكة للدولة في العاصمة الصينية بكين وحدها، تجاوزت 5 تريليونات يوان (نحو 723 مليار دولار) بنهاية 2018.
ويقول محللون وجماعات تجارية، إن المؤسسات المملوكة للدولة في الصين لا تحظى فقط بدعم صريح وإنما أيضاً بمزايا خفية مثل الضمانات الحكومية الضمنية للديون، والفوائد المخفضة للقروض المصرفية، ومن ثم فمن المستبعد تقديم تنازلات للإدارة الأميركية.
وذكرت وكالة بلومبيرغ الأميركية في تقرير لها، أمس الأحد، أن ترامب أقدم على الجزء السهل في الحرب التجارية مع الصين، بفرض رسوم جمركية على الكثير من السلع المستوردة منها، إلا أن الفوز في هذه الحرب ليس سهلاً، ويبدو أنها أكثر صعوبة وطويلة عما كان متوقعاً، إذ تظهر بكين المزيد من الصمود.
وقد ظل صقور ترامب يتجادلون، منذ أن تولى ترامب منصبه قبل نحو عامين ونصف، بأن الطريقة الوحيدة لحمل الصين على إجراء تغييرات ذات مغزى، هي الاستمرار في ضربها إلى أن تستسلم.
وبعد أن صعّد ترامب حرب الرسوم الجمركية على الواردات الصينية في وقت سابق من مايو/ أيار الجاري، وأدرجت الإدارة الأميركية شركة هواوي العملاقة للاتصالات في قائمة سوداء، دعا الرئيس الصيني شي جين بينغ المواطنين إلى "مسيرة طويلة جديدة"، ما أثار أصداءً واسعة في وسائل الإعلام الحكومية.
وقالت وكالة "شينخوا" في تعليق يوم الجمعة الماضي: "كل الشعب الصيني مستعد للشروع في رحلة جديدة، ومسيرة طويلة بشجاعة ومرونة أكبر، ولن يستسلم أبداً للتنمر والاعتداء". وتعتزم الصين زيادة الرسوم الجمركية على واردات أميركية بقيمة 60 مليار دولار، ابتداءً من الأول من يونيو/ حزيران المقبل.
ورغم الرسوم الجمركية الأميركية على سلع صينية بمئات مليارات الدولارات، فإن العجز التجاري مع الصين في 2018 ارتفع بنسبة 11.6 بالمائة، إلى أعلى مستوى له على الإطلاق عند 419.2 مليار دولار.
وذكرت وكالة بلومبيرغ أمس، أن ما يثير التساؤل حالياً، هو هل من الممكن أن يأتي النهج الأميركي بنتائج عكسية مع عواقب وخيمة على الاقتصاد الأميركي والعالمي.
وحذرت جيتا جوبيناث، كبيرة الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي، بالفعل في وقت سابق من مايو/ أيار الجاري، من أن الانتعاش في النموّ الاقتصادي العالمي المتوقع في النصف الثاني من العام الجاري 2019، تهدده عودة التوتر التجاري بين الولايات المتحدة والصين.
وكتبت جيتا في مدونة مشتركة مع مساعدها أوجينيو سيروتي، والمحلل الاقتصادي عادل محمد: "رغم أن التأثير على النموّ العالمي ضئيل نسبياً في الوقت الحالي، إلا أن التصعيد الجديد (في الحرب التجارية) يمكن أن يقوّض بشكل خطير مناخ الأعمال وثقة الأسواق المالية، ويعطل سلاسل الإنتاج ويهدد الانتعاش المتوقع في الاقتصاد العالمي في 2019".
وفي أوائل إبريل/ نيسان الماضي، خفض صندوق النقد الدولي توقعاته للنموّ العالمي إلى 3.3 في المائة هذا العام، بعد تسجيل 3.6 بالمائة في 2018.
وأشار خبراء صندوق النقد أيضاً، إلى أن التوتر التجاري بين الصين والولايات المتحدة بدأ يؤثر سلباً على المستهلكين، وكذلك العديد من المنتجين في كلا البلدين.
وخلصوا إلى أن "الرسوم الجمركية أدت إلى خفض المبادلات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، ولكن العجز التجاري بينهما لم يتغير بشكل عام".
وأدى التصعيد إلى ضربات انتقامية طاولت الصادرات الزراعية الأميركية، ما دعا ترامب إلى الإعلان قبل أيام عن برنامج مساعدات جديد بقيمة 16 مليار دولار، للمزارعين الذين وقعوا في الحروب التجارية، بينما كان قد وعدهم قبل أسابيع فقط بصفقة مع الصين، تترجم في عمليات شراء جديدة ضخمة لمحاصيلهم.
فسعر فول الصويا في الولايات المتحدة، الذي توقفت الصين عن شرائه خلال النزاع التجاري، يحوم بالقرب من أدنى مستوى في عقد من الزمان مع بدء موسم الزراعة، وفق بلومبيرغ.
ويتمثل الخطر الاقتصادي والسياسي الأكبر المحتمل الذي يواجه ترامب الآن، في تضرر سلع استهلاكية من الرسوم الجمركية مثل الملابس والهواتف الذكية المستوردة من الصين، ومن ثم يلف الاقتصاد الأميركي بأكمله.
وتسبب الخوف من ارتفاع الأسعار في أن يدلي وزير الخزانة ستيفن منوشين بشهادته أمام لجنة الخدمات المالية في مجلس النواب، يوم الأربعاء الماضي قائلاً: "أنا أراقب هذا الموقف بعناية".
كما أن القيود المفروضة على الشركات الصينية مثل هواوي، على وجه الخصوص، أثارت مخاوف من حرب تكنولوجية أكبر يمكن أن تأتي بنتائج عكسية ضد الولايات المتحدة.
وجعلت المعركة المتصاعدة على شركة هواوي، الموردين الأميركيين عالقين في الوسط، وأثارت تساؤلات لبعض الصناعات حول ما يعتبره البعض بالفعل ضرراً لا مفرّ منه على المدى الطويل، لمركزهم في السوق الصينية المربحة.
وقال جون نيوفر، رئيس رابطة صناعة أشباه الموصلات، إن شركات أشباه الموصلات في الولايات المتحدة واجهت تأثيراً سلبياً كبيراً وفورياً من القائمة السوداء.
ويأمل الكثيرون حدوث تهدئة، إذ يجري التعويل على اجتماع مخطط له بين ترامب وشي على هامش قمة مجموعة العشرين، في أواخر يونيو/ حزيران المقبل، في اليابان.
لكن ليس من الواضح أن الاجتماع سيعقد، وفق ما صرّح به تسوي تيانكاي، سفير الصين لدى الولايات المتحدة، لتلفزيون بلومبيرغ، يوم الجمعة الماضي، مشيراً إلى أنه لم تجر أي مناقشات رسمية حول الاجتماع، على الرغم من أن "الاحتمال مفتوح دائماً".
وقال جيفري شوت، المحلل في معهد بيترسون للاقتصاد الدولي: "إذا استمرت الأمور على ما هي عليه، فلماذا يرغب شي في مقابلة ترامب.. كل يوم يبدو أن الإسفين بين الولايات المتحدة والجانب الصيني يزداد ولا توجد أي إشارة إلى بناء أي جسور".