تدهور العلاقات الأميركية - التركية وتضارب المصالح في سورية

22 فبراير 2018

تيلرسون وأوغلو في أنقرة..محاولة تفاهم أميركية تركية (16/2/2018/فرانس برس)

+ الخط -
مثَّل تكثيف وتيرة الاتصالات الأميركية - التركية، على المستويات الدبلوماسية والعسكرية خلال الأسابيع القليلة الماضية، مؤشرًا على حجم التحديات التي تواجهها العلاقات بين الحليفين في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وإدراك الطرفين ضرورة وقف تدهورها. ومثّلت زيارة وزير الخارجية الأميركي، ريكس تيلرسون، العاصمة التركية أنقرة، منتصف شباط/ فبراير 2018، ذروة هذه الاتصالات.

حسابات متعارضة
جاءت الاتصالات الأميركية - التركية في ظل توتر شديد، بسبب رهان الولايات المتحدة على القوى المسلحة الكردية في سورية. وتصاعدت حدة هذا التوتر، بعد إطلاق تركيا عملية "غصن الزيتون" في منطقة عفرين، شمال غرب سورية، الخاضعة لسيطرة "وحدات حماية الشعب" التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي السوري الذي تعتبره أنقرة امتدادًا لحزب العمال الكردستاني التركي. وكان إعلان الولايات المتحدة نيتها التعاون مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تمثّل وحدات حماية الشعب عمودها الفقري، لإنشاء وتدريب قوة أمنية حدودية سورية قوامها 30 ألف عنصر، أسهم في مزيد من التدهور في العلاقات بين البلدين. وتحظى "قسد" بدعم أميركي، تسليحي وتدريبي، في حين ترى تركيا أن سيطرتها على الشمال السوري مقدمة لقيام كيان كردي انفصالي.
وتهدّد الحسابات المتعارضة للولايات المتحدة وتركيا بإمكانية وقوع صدام بين البلدين، خصوصًا مع تهديد تركيا بأنها قد تضطر إلى اجتياح بلدة منبج الواقعة على الضفة الغربية لنهر الفرات، ودعوتها القوات الأميركية الموجودة فيها إلى الانسحاب منها، وهو الأمر الذي ترفضه الأخيرة. وتخضع منبج حاليًا لسيطرة "قسد". وتحاول الولايات المتحدة، عبر هذه الاتصالات، تهدئة المخاوف التركية، وتجنّب الصدام بين قوات البلدين، أو بين الفصائل السورية المدعومة من كليهما.
ويعترف الطرفان بأن مستوى العلاقات وصل إلى حدٍ غير مسبوق من انعدام الثقة وافتراق المصالح؛ فبحسب تيلرسون، وصلت العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا إلى "مرحلة
 حرجة". وهو التقييم الذي شاركه إياه وزير الخارجية التركي، مولود تشاويش أوغلو، بقوله: "إما أن نصحح العلاقات أو أنها ستأخذ منعطفًا نحو الأسوأ". ولعل في تحذير الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، القوات الأميركية في شمال سورية، في 14 شباط/ فبراير 2018 من الوقوف في وجه العملية العسكرية التي تنفذها قواته شمال غرب سورية، ما يؤكد المرحلة الحرجة التي وصلت إليها العلاقات بين البلدين، خصوصًا أنها جاءت بعد تحذيرٍ مماثلٍ، وجّهه قائد القوات الأميركية في منبج، الجنرال بول فونك، للفصائل السورية المدعومة من أنقرة، بقوله: "إن هاجمتمونا سنردّ بقوة". وبحسب تشاويش أوغلو، لا تنمّ تصريحات أردوغان عن عداوة للولايات المتحدة، بقدر ما تعبر عن رأيٍ عام تركي مستاء منها؛ إذ ينظر 83% من الشعب التركي إلى الولايات المتحدة نظرةً سلبية، استنادًا إلى استطلاع رأي أجراه أخيرا مركز التقدم الأميركي.

محاولات رأب الصدع
انطلاقًا من إدراك الولايات المتحدة وتركيا حقيقة التوتر القائم في علاقاتهما وعمقه، فقد حرص مسؤولو البلدين على تأكيد مستوى العلاقات التحالفية بينهما، كما حرص المسؤولون الأميركيون على إبداء تفهمهم الهواجس التركية، الأمر الذي أكده تيلرسون، بقوله: "تحالفنا ليس شكليًا، وليس مرتبطًا بمصلحة مؤقتة. إنه تحالف تم اختباره زمنيًا، وهو مبنيٌّ على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل". وأضاف: "لن نتصرّف منفردين بعد اليوم. لن تفعل الولايات المتحدة شيئًا والأتراك شيئًا آخر". ورأى تيلرسون أنه لا خلاف في الأهداف بين الطرفين في سورية، والمتمثلة في: هزيمة "داعش"، وتحقيق الاستقرار في سورية، وإيجاد مناطق استقرار، حتى يتمكّن اللاجئون والنازحون داخليًا في النهاية من العودة إلى ديارهم، ودعم حل سياسي لسورية يؤدي، في النهاية، إلى سورية موحدة ومستقلة وديمقراطية، من دون وجود علامات ترسيم حدودية تقسمها، وتمكين الشعب السوري من اختيار قيادته من خلال انتخابات حرة ونزيهة.
ونص البيان المشترك الذي جاء بعد لقاءات تيلرسون في أنقرة على "إنشاء آليةٍ لحل الخلافات"، وتعزيز العلاقات بين البلدين، على أن يتم "تفعيلها في موعدٍ لا يتجاوز منتصف آذار/ مارس 2018". كما أشار تشاويش أوغلو إلى اتفاق الطرفين على تشكيل مجموعات عملٍ أخرى تعالج مسائل مثل وحدات حماية الشعب الكردية، والداعية التركي فتح الله غولن المقيم في ولاية بنسلفانيا الأميركية، الذي تتهمه أنقرة بالوقوف وراء المحاولة الانقلابية عام 2016.
مع ذلك، لا يبدو أنّ أزمة الثقة بين الطرفين قد زالت؛ إذ لم تقدّم الولايات المتحدة إجابةً، بعد، 
عن العرض التركي نشر قوات مشتركة معها في سورية، وهو ما يعني، إن تمَّ، استبدال القوات الكردية بتركية. فبحسب تشاويش أوغلو، ستكون تركيا قادرة على اتخاذ خطوات مشتركة مع الولايات المتحدة في سورية، ما إن تغادر الوحدات الكردية منطقة منبج، مضيفًا: "المهم من سيحكم ويوفر الأمن لهذه المناطق [...] سننسق لاستعادة الاستقرار في منبج والمدن الأخرى. سنبدأ بمنبج. بعد أن تغادر وحدات حماية الشعب الكردية، يمكننا اتخاذ خطوات مع الولايات المتحدة بناء على الثقة". وهو الأمر الذي ردَّ عليه تيلرسون بالقول: "لا يتعلق الأمر بمنبج وحدها. علينا أن نفكر في الشمال السوري بأسره". وأضاف، وإن كان يتفهم حق تركيا المشروع في الدفاع عن حدودها، فهي مدعوةٌ لممارسة ضبط النفس في عملية عفرين، وتجنّب ما وصفها تصرفاتٍ من شأنها تصعيد حدة التوتر في المنطقة.
وكان لافتًا أيضًا تضارب التصريحات التركية - الأميركية في مسألة سحب الأسلحة الثقيلة من وحدات حماية الشعب. وبحسب وزير الدفاع التركي، نور الدين جانيكلي، فإنّ نظيره الأميركي، جيمس ماتيس، خلال اجتماعه به في 15 شباط/ فبراير 2018 على هامش اجتماع لحلف الناتو، أبلغه أنّ واشنطن تعكف حاليًا على خطة لجمع الأسلحة التي وزعتها على "قسد"، خصوصًا الأسلحة الثقيلة. لكن تيلرسون قال، في وقت لاحق، إن واشنطن "لم تقدّم مطلقًا أسلحة ثقيلة" ل"قسد". ولذلك لا يوجد شيء يحتاج إلى أن نجمعه. وهو الأمر الذي أثار غضب الأتراك الذين يصرّون على أنّ واشنطن تسلّح الأكراد بأسلحةٍ ثقيلةٍ، يستخدمونها في التصدّي للعملية العسكرية التركية في عفرين.
وقد أقر تيلرسون بالتلاعب الأميركي مع تركيا بقوله: "قطعت الولايات المتحدة تعهداتٍ لتركيا من قبل، ولم تف بالكامل بتلك الالتزامات. سنعالج ذلك من خلال مجموعة العمل، وسيكون لمنبج الأولوية". وهو ما دفع تشاويش أوغلو إلى القول إن الولايات المتحدة قدّمت وعودًا في السابق "لم يتم الالتزام بها"، وأن تركيا تصر هذه المرة على أن تغادر القوات الكردية بلدة منبج السورية، وتتحرك إلى شرقي نهر الفرات.

أسباب أخرى للتوتر
ولكن الخلاف الأميركي - التركي لا يقتصر على السياق السوري، فثمّة عوامل أخرى تسهم في توتير العلاقة بين الطرفين، وانعدام الثقة بينهما، أهمها:
• الانفتاح التركي على روسيا والتنسيق المشترك معها في سورية بعيدًا عن الولايات المتحدة، خصوصًا في مسار مفاوضات أستانة.
• نية تركيا شراء نظام الدفاع الصاروخي الجوي الروسي أس – 400. فمن ناحية، ترى الولايات المتحدة وحلف الناتو أن هذا النظام لا يتوافق مع أنظمة الحلف. ومن ناحية أخرى، فإن الولايات المتحدة تقول إنّ مضيّ تركيا في الصفقة مع روسيا قد يجعلها عرضةً لعقوباتٍ أميركيةٍ، بموجب القانون الأميركي الذي أقرّه الكونغرس عام 2017 لمعاقبة روسيا، بذريعة تدخّلها في الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016. وينص القانون على معاقبة الشركات والدول التي تتعامل مع بعض الصناعات العسكرية الروسية. أما تركيا فتقول إنها تتفهم القوانين الأميركية، لكن الدفاع الجوي يمثل مصدر قلق لها، وهي لم تتمكن من الحصول على بدائل أخرى من العرض الروسي.
• استمرار تركيا في احتجاز بعض الموظفين الأتراك العاملين في القنصلية الأميركية في إسطنبول، إضافةً إلى مواطنَيْن أميركيين، تتهمهم السلطات التركية بالتجسّس والتورّط في دعم المحاولة الانقلابية التي شهدتها تركيا صيف عام 2016. وقد أدت هذه الاعتقالات إلى تعليق خدمات التأشيرة بين البلدين في تشرين الأول/ أكتوبر 2017. وقد طالب تيلرسون بالإفراج عنهم جميعًا.
• استمرار الولايات المتحدة في إيواء فتح الله غولن الذي تتهمه أنقرة بالوقوف وراء المحاولة الانقلابية عام 2016. وما زالت الولايات المتحدة تماطل في فتح ملف غولن، إذ قال 
تيلرسون إن الولايات المتحدة ستواصل فحص الأدلة التي قدّمتها تركيا ضده.
• الغضب التركي من الموقف الأميركي الغامض من محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا صيف عام 2016. وقد حاول تيلرسون التخفيف من حدّة الغضب التركي في هذا الصدد، عبر إشارة البيان المشترك بين البلدين إلى إدانة الولايات المتحدة "محاولة الانقلاب الشنيعة"، وإعرابها عن تضامنها مع الحكومة التركية.
• استياء واشنطن من تراجع منسوب الديمقراطية في تركيا، وما تسميها النزعة السلطوية لدى الرئيس أردوغان. وقد لمّح تيلرسون إلى ذلك في مؤتمر صحافي مشترك مع تشاويش أوغلو، بقوله: "نحن ندعم، وسوف نواصل دعم الديمقراطية التركية"، مضيفًا: "احترام سيادة القانون واستقلال القضاء والصحافة الحرة هي مصادر قوة واستقرار، وعندما تحافظ تركيا على التزامها بهذه المبادئ فإنها توسّع شراكتنا المحتملة".

الخلاصة
ربما نجحت اللقاءات الدبلوماسية والعسكرية الرفيعة المستوى التي أجراها مسؤولون كبار من البلدين في الأسبوعين الأخيرين في تخفيف أزمة حادة بين الحليفين، غير أنه من غير المحتمل أن تتمكّن من تبديد الأزمة بينهما كليًا؛ فالخلافات الحادة بين الولايات المتحدة وتركيا تتعلق بالرؤى والأولويات والإستراتيجيات في الإقليم؛ أي من العلاقات بروسيا إلى الموقف من الصراع الدائر في سورية. ولكن، من المستبعد أن تصل الأزمة إلى درجة الصدام؛ فثمة آلياتٌ كثيرةٌ لتجَنُّبه والتوصل إلى تسويات، فلا يبدو أنّ أيًا من الطرفين مستعد للاستغناء عن الآخر. أما التوصل إلى إستراتيجيةٍ مشتركةٍ فهو أمر صعب المنال حاليًا.