يتردد اللبناني ناجي غلام على حطام بيته التراثي القديم الواقع في حيّ الجميزة العريق والذي يعد من أول ضواحي العاصمة التي تشكلت حول سور المدينة القديم، من أجل لملمة ما تبقى من متعلقات أطفاله الأربعة الذين جرحوا في انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020.
تغير وجه الحي الأكثر تضرراً من الانفجار بسبب القرب من المرفأ، كما يقول غلام الذي يعتبر أن "هوية بيروت التاريخية مهددة وعائلاتها في مواجهة التشرد والاقتلاع"، متخوفاً من أن يتكرر الآن ما حدث في الفترة التي تلت الحرب الأهلية، حين وضع تجار المباني يدهم على مبان تراثية وحولوها إلى أبراج سكنية وتجارية مربحة.
"ما حصل حينذاك، غير معالم المنطقة من حيّ الصيفي إلى الكرنتينا". وفق إفادة المهندس المعماري والأستاذ في كلية الهندسة بجامعة طرابلس وسيم ناغي، موضحاً لـ"العربي الجديد" أنه تمّ جرد بيوت بيروت التراثية بداية التسعينيات في عهد الرئيس رفيق الحريري، وتبين وجود 2400 مبنى تراثي في المدينة، وفي عام 2016 تبين أنه لم يتبق منها سوى 400 بيت فقط كما أظهر جرد ذلك العام"، مرجعاً ذلك إلى أن بعض المالكين بعد الحرب الأهلية استعجلوا ببيعها للمقاولين وتجار البناء بمبالغ كبيرة، قبل أن يتم حتى تصنيفها ووضع إشارة على صحيفتها العقارية من قبل المديرية العامة للآثار، ليتم بيعها وهدمها وإقامة العمارات في مكانها.
ويتخوّف ناغي من أن يتم القضاء على ما تبقى من البيوت التاريخية في العاصمة بعد تضررها بسبب الانفجار ومنح أذونات بهدمها بعد تضررها، لأن "سعر كل عقار تراثي يشكل ثروة في بيروت وبعضها يصل إلى مبالغ مالية ضخمة تتجاوز 20 مليون دولار أميركي"، على حدّ قوله، مشيراً إلى أن تقرير نقابة المهندسين في بيروت، الصادر عن المؤتمر المنعقد في 9 أغسطس الجاري، والموجه إلى مؤتمر الدعم في باريس يوثق تضرر 100 مبنى تراثي ذي قيمة استثنائية.
صعوبة ترميم البيوت التراثية
يتميز البيت التراثي بوجود عناصر عمرانية كالقناطر والقرميد والعقد الحجري، ويمنع التصرّف به أو هدمه أو إصلاحه دون العودة إلى المديرية العامة للآثار كونه مدرجا على لائحتها، ولا تمتلك المديرية إحصائية واضحة بعدد المباني التراثية المتضررة من الانفجار، لكنها وفق مسح أولي وجدت أن درجات الضرر الذي لحق بها متفاوت وبعضها لا يحتاج إلى الهدم لذلك ستتشدد المديرية في منح أذونات الهدم. وفق ما كشفه مصدر في المديرية لمعدّ التحقيق.
غلام يستذكر كيف دفعه الانفجار ومساعدته في مؤسسته لتصليح الأجهزة الخليوية أمتاراً، وفرّ تحت الصدمة إلى منزله لينقذ أسرته، ليجد أن سقف بيته القرميدي وحجارته الأثرية انهارت، وجميع النوافذ والأبواب تحطمت، قائلاً لـ"العربي الجديد": المنزل أضراره كبيرة ولا تتوفر القدرة المادية لترميم بيت تراثي مشيد في بداية القرن العشرين، إذ كنا عاجزين عن ذلك في الفترة التي سبقت صعود سعر صرف الدولار، كيف هي الحال الآن وقد خسرت الليرة قيمتها".
ويبلغ عدد المباني المتضررة في بيروت 3972 مبنى، وما زال العمل مستمراً لمسح جميع الأضرار، وفق ما كشفته المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي في لبنان في أحدث إحصاء أصدرته في 12 أغسطس/آب.
وبسبب العدد الكبير من المباني المتضررة استغل تجار الأزمة لرفع أسعار المواد المطلوبة لإعادة الإعمار، وأبرزها الزجاج، إذ وصل ثمن متر الزجاج المقوى الآمن إلى 80 دولاراً أميركياً، وفقاً لغلام، مؤكداً من تجربته أن هناك نقصاً كبيراً في السوق، وكثير من المتضررة مبانيهم لم يجدوا حاجتهم لدى التجار، وأمام هذه الأزمة، لجأ اللبنانيون إلى استخدام بدائل مؤقتة كالنايلون، والذي ارتفع سعر الرول منه بمقدار ثلاثة أضعاف ليبلغ 400 ألف ليرة، أي ما يعادل 265 دولاراً (وفق سعر الصرف الرسمي)، وكل ذلك يحصل في ظل غياب رقابة الدولة، وفق قوله.
حال غلام كغيره من أصحاب البيوت التراثية في الجميزة والتباريز ومار مخايل، الذين خسروا بيوتهم، ومنهم آل كوراني الذي تحول منزلهم المؤلف من 4 طوابق في حيّ التباريز والذي يعود تاريخ بنائه إلى أربعينيات القرن العشرين، إلى هيكل إسمنتي، إذ تحطمت النوفذ الخشبية القديمة، ولم يصمد الزجاج، والأبواب وسائر مرافق البناء. كما يروي سيرج كوراني لـ"العربي الجديد"، قائلاً أن المبنى مصنّف تراثياً. ويحتاج ترميمه لحوالي 250 ألف دولار.
ويحمل الدولة اللبنانية مسؤولية ما آلت إليه هذه الأبنية، لأنها لم تساعد مالكيها في الحفاظ عليها سواء على مستوى التشريعات، أو القروض، أو استملاكها ودفع ثمنها، ويوافقه في ذلك المهندس لطف الله تويني، الذي يمتلك مكتباً خاصاً في الأشرفية، قائلاً أن الدولة أوصلت تلك البيوت لحالة من الضعف والدمار، وبعضها يحتاج إلى ما لا يقل عن 300 ألف دولار لإصلاحه لأن كلفة تطويره وجعله قابلا للحياة بحدود عشرة أضعاف بيت عادي، بسبب تغيير المرافق الصحية، والتمديدات الكهربائية، ومتطلبات الحياة، وإصلاح الأرضيات والقرميد الكلاسيكي.
هذا ما يؤكده المهندس ناغي قائلا :"إن تكلفة ترميم البيوت التراثية التي تشكل أغلبية مباني الجميزة والتباريز والأشرفية عالية جداً، "لأنه يجب التعامل معها عبر تفكيكها إلى أجزاء وقطع، لترميمها وإعادة تركيبها". مضيفاً أن كلفة الزجاج البلوري الملوّن المستخدم فيها كبيرة، ويصل سعرها إلى 4 أضعاف الزجاج العادي.
يؤكد المهندس لطف الله تويني أن المقاول طالبه بسبعة آلاف دولار لقاء الواجهة المتحركة لشرفته، وطالبه بأن يكون نصف الثمن على سعر صرف الحوالات النقدية البالغ 3900 ليرة، والنصف الثاني حسب السوق السوداء.
إعادة إعمار مؤجلة بسبب الغلاء
في جولة ميدانية أجراها معدّ التحقيق، يمكن تصنيف الأضرار إلى ثلاثة مستويات، الأول منطقة طاولها دمار شديد؛ وهي المواجهة للمرفأ والمحيطة به، أي أحياء مار مخايل، الجميزة، الصيفي، وسط بيروت، والكرنتينا والتباريز. ومنطقة ثانية تركزت الأضرار فيها على الواجهات والنوافذ الزجاجية والتجهيزات المنزلية، وهي أحياء الأشرفية السوديكو واليسوعية، ومنطقة كورنيش النهر، وأطراف برج حمود، فيما شهدت ضواحي بيروت الكبرى في المتن الشمالي وبعبدا أضرارا متفاوتة وبسيطة مقارنة بقلب العاصمة.
عند المدخل الشمالي للعاصمة، مقابل المرفأ تماماً يقع حي مار مخايل الذي طاوله ضرر هائل، وقد بدأت الحياة تدب في هذا الحي إبان الحقبة التركية مع بناء محطة القطار عام 1894، والمتوقفة عن العمل منذ الحرب الأهلية.
وتدمرت الواجهات الزجاجية لمؤسسات وشركات كبرى في مار مخايل، كما وثق معدّ التحقيق عبر جولات ميدانية منها مبنى مؤسسة كهرباء لبنان، وشركة الاتصالات تاتش، وغيرها، بالإضافة إلى عشرات البيوت التي تدمرت، وبات ساكنوها بلا مأوى، كما حدث مع الأربعينية فاليري خليفة، التي تقف على أطلال منزلها في مار مخايل، بعد أن نجت بأعجوبة مع ابنها، قائلة :"لم يتبقَ شيء في المنزل، النوافذ، الأبواب، حتى الجدران الحجرية أزيلت من مكانها".
تضيف خليفة أنها عاجزة عن ترميم المنزل، لأنه بناء قديم وقد لا يحتمل الإصلاح، كما أنها غير قادرة على توفير تكاليف الترميم وخاصة أن الأسعار تضاعفت، "متر الزجاج الذي كان بـ 60 ألف ليرة (40 دولاراً وفق سعر الصرف الرسمي)، صار بـ 300 ألف" أي 198 دولاراً. وفقاً لروايتها.
وتواجه عملية الترميم مجموعة من العوائق في مقدمتها أن الخسائر الكبيرة في المنقولات، وعدم إمكانية وصول اللبنانيين إلى ودائعهم المصرفية، وكذلك ارتفاع سعر صرف الدولار الذي قيّد أيدي الناس ويحول دون تمكنهم من شراء الزجاج المقوى ومواد البناء العازلة أو القرميد، لأنها مواد مستوردة في غالبيتها، وفقاً لإفادات المتضررين التي يوثقها التحقيق.
ويوضح فادي كمانة صاحب شركة كمانة للزجاج، أن هناك أنواعاً مختلفة للزجاج المستخدم في لبنان، منها العادي بسمك 6 ملم، وثمن المتر 25 دولاراً، والمقوّى tempered glass، والمقوّى الآمن laminated الذي لا يتطاير عند تدميره وفيه ثلاث درجات تقوية، ويصل سعره إلى 85 دولاراً. مشيراً إلى أن الشركات تتقاضى قيمة المواد بالدولار، أما كلفة اليد العاملة والتركيب فبالليرة اللبنانية.
ولا يستغرب كمانة حجم التكسير الذي طاول الزجاج، لأنه العنصر الأضعف في البناء مقارنة بالحجر والخشب، لافتاً إلى أنه لا يوجد زجاج لا ينكسر، وإنما هناك "المصفّح" الذي يعد الأكثر أماناً، ويكون ضرره أقل ولا يسبب جروحاً، ويتمّ استيراد المواد الخام للزجاج من خارج لبنان، أما التصنيع والتقوية فيحصل في مصانع محلية، بحسب إفادته لـ"العربي الجديد".
وأسهم الانفجار بارتفاع الطلب على الزجاج والألمنيوم، وأعلنت بعض المصانع عن وقف استقبال الطلبات بسبب نفاد الكميات، ويبرر أصحاب المؤسسات ارتفاع الأسعار بالحاجة لتأمين الدولار لاستيراد المواد الأولية. بحسب كمانة.
معركة قانونية بين المالك والمستأجر
تضررت الأبنية القديمة المؤجرة بموجب "عقود إيجار قديمة"، في حيّ الجميزة خاصة، بشكل أكثر من غيرها، نتيجة إهمال إصلاحها بسبب النزاع بين المالكين والمستأجرين الذي نشأ منذ الحرب الأهلية، عندما انهار سعر صرف الليرة، واستمر لعقود. وفق الياس فرح، مالك إحدى تلك المباني.
جال معدّ التحقيق في مبنى الياس فرح الذي تحطم بشكل كامل، أصبح سقفه آيلا للسقوط في أي لحظة، وخلت الطوابق العليا من المستأجرين الذين رحلهم الانفجار، فيما تطلب السيدة التي تقطن الطابق الأرضي من بناتها العجلة في جمع ما يمكن جمعه خوفاً من سقوط المبنى.
ويرفض رئيس نقابة مالكي العقارات والأبنية المؤجرة باتريك رزق الله، تحميل المالكين مسؤولية ترهل تلك المباني، معتبراً أنه لا يمكن الطلب من مالك يتقاضى أجراً هزيلاً يصل إلى 100 دولار سنوياً في بعض الوحدات، وممكن 40 دولاراً شهرياً في قلب الأشرفية، أن يرمم مبنى يحتاج إلى مئات الآلاف من الدولارات.
ووفقاً لتقديرات النقاية التي تعود إلى عام 2011، فإن عشرة آلاف مبنى مهدد بالانهيار في بيروت بسبب العجز عن الترميم، وتضاعف الرقم بفعل الانفجار الحالي الذي خفض قدرة سائر الأبنية للمقاومة. كما يقول رزق الله مطالبا بتطبيق قانون الإيجارات الجديد الصادر عام 2014، وإلزام الدولة بتقديم دعم مالي للمستأجرين الأكثر حاجة. في المقابل، يتخوف رئيس تجمع المحامين والطعن في قانون الإيجارات، المحامي أديب زخور من استغلال الجريمة للمتاجرة بالأبنية، مطالباً القضاء بالتدخل لحماية المستأجرين الفقراء، وإغاثة المستأجرين المصابين.