تداعيات استيراد مصر الغاز من الاحتلال

17 فبراير 2020
تجنّب السيسي الحديث عن أي مكاسب مالية ستحققها الصفقة(Getty)
+ الخط -
أثارت صفقة تصدير الغاز الطبيعي الضخمة من دولة الاحتلال إلى مصر، والتي تقدّر بنحو 20 مليار دولار وعلى مدى 15 سنة، ودخلت حيز التنفيذ في منتصف شهر يناير/كانون الثاني الماضي، جدلا واسعا في مصر المكتفية ذاتيًا من الغاز الطبيعي منذ نهاية سنة 2018، كما تمثل تطوراً غير مسبوق في تاريخ دولة الاحتلال المستوردة للغاز منذ قيامها.

فهل تحقق الصفقة مكاسب مالية للاقتصاد المصري، كما زعم الجنرال عبد الفتاح السيسي، وقال إنه أحرز "جون كبير"، أو هدفا بلهجته العامية، وحلما كان يحلم بتحقيقه منذ 4 سنوات؟!

أم أن الصفقة تحقق مكاسب للاقتصاد الإسرائيلي على حساب المصري، بما يشبه صفقة تصدير الغاز المصري للكيان المحتل في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، سيما أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وصفها بالتاريخية، واعتبر، في فبراير/شباط 2018، يوم إبرام الصفقة عيدًا لإسرائيل، ونجاحا لحكومته في دخول نادي الدول المصدرة للغاز الطبيعي.

كما تدعم الصفقة موقف نتنياهو في الانتخابات المقررة الشهر المقبل، حيث يستخدمها في الدعاية الانتخابية، باعتبارها أهم إنجازات حكومته على الإطلاق، وبالتالي تزيد فرصته في الاستمرار في منصب رئيس الحكومة، ومن ثم الإفلات من السجن الذي سيلاحقه في نفس اليوم الذي يترك فيه كرسي الوزارة بسبب تهم بالرشى والفساد؟!.

حتى نقف على حجم الخدمات الجليلة التي قدمها السيسي للكيان المحتل بإبرام الصفقة، يكفي أن نشير إلى ما كشف عنه نتنياهو من أن الصفقة ترفد الخزانة العامة للكيان المحتل بمبلغ 10 مليارات دولار، ما يعادل نصف الصفقة كاملة، ناتجة عن الضرائب والرسوم المقررة على الصفقة، والتي ستذهب إلى الصحة والتعليم والسكن.

كما أن إسرائيل ومنذ سنة 2010 عاجزة عن الاستفادة من ثروة الغاز الطبيعي التي أعلنت عن اكتشافها في شرق البحر الأبيض المتوسط، ولولا الجنرال السيسي الذي مرر الصفقة ما تمكنت من التصدير حتى الآن على أقل تقدير، الأمر الذي دعا وزير الطاقة في حكومة نتنياهو إلى أن يقول إنه يوم يستحق أن يكون عطلة رسمية لبلده.

تجنّب السيسي الحديث عن أي مكاسب مالية ستحققها الصفقة لمصر، عكس ما فعله نتنياهو الذي يتباهى بإدخال 10 مليارات دولار من الصفقة للخزانة الإسرائيلية، واكتفى عند حديثه عن سعر شراء الغاز الوارد بقوله "يعني هنشتري بكام؟.. إنتوا عارفين احنا بنشتري إزاي حاجتنا؟.. عارفين؟.. هه" وختم حواره بسخرية ومن دون أن يعطي إجابة واضحة بقوله "لأ.. احنا جبنا جون يا مصريين في الموضوع ده!".

في المقابل، ذكرت هيئة الإذاعة الإسرائيلية على موقعها الإلكتروني في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، أن سعر بيع الغاز لمصر لن يقل عن سعر عقود بيع الغاز داخل إسرائيل، وأنه سيكون مربوطاً بسعر برميل النفط من خام برنت القياسي، أي نحو 4.8 دولارات لكل مليون وحدة حرارية. وبعد إضافة أسعار النقل والإسالة، فإن السعر سيكون في حدود 5 دولارات لكل مليون وحدة حرارية.

ووفقاً لأسعار الغاز الطبيعي في الأسواق العالمية، فإنه يصل في العقود الآجلة إلى نحو 2.2 دولار فقط لكل مليون وحدة حرارية، وفق صحيفة "العربي الجديد"، ما يعني أن مصر سوف تشتري الغاز بضعف السعر العالمي، وبالتالي فنحن أمام نكسة جديدة تشبه نكسة تصدير الغاز المصري لإسرائيل في عهد المخلوع مبارك، بسعر بخس لا يغطي تكلفة الاستخراج ويهدر المال العام من جديد.

ومع وجود شك كبير في إمكانية تصدير الغاز المستورد لأوروبا بعد إسالته بسبب ارتفاع تكلفة المنتج النهائي بالمقارنة بالغاز الروسي والأوكراني والجزائري الذي يصل إلى القارة الأوروبية بسعر منخفض، فإن استخدامه في السوق المحلي سوف يحقق خسائر وليس أرباحا لمصر، لأن الغاز الإسرائيلي المرتفع في السعر سوف يحل محل الغاز المصري الذي يقل سعره عن نصف سعر الإسرائيلي، وبالتالي يتحمل المواطن المصري، الذي يدفع تكلفة الغاز الطبيعي كاملة ومن دون أي دعم حكومي، فروق الأسعار التي تذهب لجيب المواطن في الكيان الغاصب.

جاء في بيان وزارة البترول المصرية أن الصفقة ستمكن إسرائيل من نقل كميات من الغاز الطبيعي لديها إلى أوروبا عبر مصانع الغاز الطبيعي المسال المصرية. لكن الحساب التابع لوزارة الخارجية الإسرائيلية على موقع تويتر كشف عن أن الغاز الطبيعي الإسرائيلي الذي بدأ التدفق من حقل ليفياثان مُخصص للاستخدام في السوق المحلي المصري. وقد اعترف السيسي بأن الغاز المستورد سيتم إدخاله على الشبكة القومية ليكون متاحاً، إما للاستهلاك المحلى أو للتصدير.

قبل تنفيذ الصفقة بشهور قليلة، ومع تزايد كشوف الغاز في المنطقة البحرية المصرية، وصلت طاقة تشغيل مصنع تسييل الغاز في إدكو إلى 90% من الطاقة الإنتاجية، وعملت الإدارة على رفع الطاقة إلى ما يقارب 100% لتغطية الاستهلاك المحلي، ولزيادة أرباح الشركاء الأجانب الذين تزيد حصتهم عن 75% من أسهم المصنع.

أما مصنع دمياط فكان متوقفا عن العمل بعد وقف تصدير الغاز لإسرائيل عقب ثورة 25 يناير، وكان من المتوقع البدء في تشغيل المصنع لإسالة الغاز الناتج حديثًا من حقل ظهر.

هذا يعني أن طاقة الإسالة لمصنعي إدكو ودمياط لن تستوعب الغاز الإسرائيلي، وبالتالي سوف ينافس الغاز الإسرائيلي الغاز المصري في أولوية الاستهلاك المحلي والإسالة. وهو ما حدث بالفعل.

فبعد أسبوعين من إبرام الصفقة قررت الشركة القابضة للغازات الطبيعية "إيغاس" المصرية المملوكة للدولة، تخفيض إنتاج حقل ظهر إلى نحو 2.4 مليار قدم مكعبة من الغاز يوميا، والذي كان يصل إلى 3 مليارات قدم مكعبة، بسبب ارتفاع ضغوط الشبكة القومية للغازات، وفق تصريح مسؤول في الشركة.

ارتفاع ضغوط الشبكة القومية بالغاز، يؤكد دخول الغاز الإسرائيلي في الشبكة القومية للغاز في مصر، وفق اعتراف السيسي. وبمناقشة تداعيات ذلك مع أحد خبراء تشغيل حقول الغاز الطبيعي المصريين، والذي عمل في حقل غاز أبو قير منذ بداية تشغيله، قال: "حينما تستورد دولة ما غازا أو بترولا من دولة أخرى فإنها تراعي المواصفات القياسية ومستويات غاز ثاني أكسيد الكبريت السامة للإنسان والتي تسبب تآكل المعادن، وبخار الماء الذي يقلل المحتوى الحراري للغاز المستورد، ويخضع ذلك للاختبارات والرقابة المستمرة".

وأضاف الخبير المصري: "أما أن يتم ضخ الغاز المستورد في الشبكة القومية لمصر ويختلط بالغاز المصري من دون ضبط المواصفات والرقابة على المكونات، فهذا من أعجب ما يمكن أن أسمعه في صفقات الغاز، لأنه يضر بصحة المستهلكين المصريين، ويعرّض سلامة الأجهزة والماكينات في المصانع للتآكل والتلف، ويقلل كفاءة الغاز كمصدر للطاقة، وهو غش تجاري".

وقال: "أنا لم أسمع من أحد المسؤولين أنه تم إنشاء خط بحري جديد يربط تلك الحقول بمعامل الإسالة في إدكو ودمياط لتلافي هذه المخاطر، ما يؤكد المخاطر السابقة"، وهكذا يعطي السيسي الأولوية للغاز المستورد من دولة الاحتلال على حساب الغاز المحلي والمستهلك المصري والاقتصاد القومي.

كما فعل مبارك، نفى الجنرال السيسي علاقة الحكومة بالصفقة، خوفًا من غضب الرأي العام، وقال إن ما حدث هو أمر تعاقدي بين القطاع الخاص في مصر وإسرائيل ولا دخل للحكومة المصرية فيه، وأكد على أن مصر ليس لديها ما تخفيه.

لكن موقع ميدل إيست آي البريطاني كشف عن أن المخابرات العامة المصرية تمتلك معظم أسهم شركة دولفينوس المستوردة للغاز والتي ظهرت فجأة للعلن في 2015 بعد الإعلان عن الصفقة.

يعني هذا أن صاحب الشركة، علاء عرفه، ما هو إلا "عرّاب" صفقة استيراد الغاز، كما كان حسين سالم، صاحب شركة الشرق للغاز والبحر الأبيض المتوسط للغاز، عراب تصدير الغاز في عهد مبارك، والستار لجهاز المخابرات العامة، المالك الفعلي للشركة، وذلك باعتراف قاضي محاكمة المخلوع مبارك في محاكمة القرن، وباعتراف حسين سالم في حواره مع صحيفة المصري اليوم.

وخطورة ذلك أن الدولة المصرية سوف تتحمل أي غرامات قد تقع على شركة دولفينوس في المستقبل إذا توقفت عن استيراد كميات الغاز المنصوص عليها في الصفقة طوال مدة التعاقد لأي سبب من الأسباب، كما تحملت غرامة مقدارها 1.7 مليار دولار للشركات الإسرائيلية بسبب تفجير خط أنابيب النقل في شمال سيناء وتوقف تصدير الغاز لإسرائيل بعد ثورة يناير، رغم أن الحكومة أعلنت مرارًا عن أن الصفقة تمت بين شركات خاصة وأنها ليست طرفًا فيها، ولكن هذه الحيل لا تنطلي على جهات التحكيم الدولية.

المساهمون