تحلية مياه البحر... أكذوبة كبيرة

05 نوفمبر 2019
سد النهضة يشعل الخلافات بين مصر وإثيوبيا (Getty)
+ الخط -
بعد أن قاربت إثيوبيا على الانتهاء من بنائه، أعلنت الحكومة المصرية مطلع أكتوبر/ تشرين الأول الماضي أن مفاوضات سد النهضة وصلت لطريق مسدود، وأن الجانب الإثيوبي رفض كل مقترحات القاهرة التي تراعي مصالحها المائية.

وبعدها قال الجنرال عبد الفتاح السيسي عبر تويتر إن الاجتماع الثلاثي لوزراء الري في مصر والسودان وإثيوبيا لمناقشة ملف السد لم ينتج عنه أي تطور إيجابي، ثم فاجأ رئيس وزراء إثيوبيا، آبي أحمد، والحاصل على جائزة نوبل للسلام الجميع، بالتلويح بالحرب في وجه مصر، وأن لا قوة يمكن أن توقف بلاده عن إتمام بناء السد على حد قوله.

وكان من الطبيعي أن يعلن السيسي سحب توقيعه من اتفاق مبادئ سد النهضة الذي وقعه في مارس/ آذار 2015، ووقف المفاوضات العبثية التي وصلت بالفعل إلى طريق مسدود، وسلوك طريق آخر يحفظ حقوق المصريين في المياه والحياة، ويمنع إثيوبيا من تنفيذ سياسة الأمر الواقع بالانتهاء من بناء السد والبدء في ملء الخزان منفردة ودون اتفاق مع مصر، ثم تشغيل السد منتصف العام القادم كما أعلن عن ذلك رسميًا سلشي بيكيلي، وزير المياه والطاقة الإثيوبي أمام برلمان بلاده.

التفاف على الأزمة

وبدلًا من مواجهة أزمة سد النهضة بالدفاع عن حصة مصر في مياه النيل، والبالغة 55.5 مليار متر مكعب من المياه النقية، أعلن السيسي عن خطة لمواجهة سد النهضة بتعزيز موارد مصر المائية في مواجهة أزمة سد النهضة بإعادة تدوير مياه الصرف الصحي وبتحلية مياه البحر. وقال إن الخطة تكلفت ما يقرب من 200 مليار جنيه في السنوات الخمس الماضية، وتقوم بإنتاج 1.5 مليون متر مكعب من المياه يوميًا، وأنه من المتوقع أن تصل إلى 900 مليار جنيه بحلول العام 2037"، وفق تصريحاته في الندوة التثقيفية الـ31 للقوات المسلحة.

معلوم أن السيسي يستدعي موضوع تحلية مياه البحر كلما أُعلن عن فشل مفاوضات سد النهضة لتطمين الناس بوجود البديل، لكن 1.5 مليون متر مكعب من مياه البحر يوميًا هو رقم كبير ومبالغ فيه.

ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 2017 أعلن وزير الري المصري، محمد عبد العاطي، فشل مفاوضات السد، بعد رفض إثيوبيا والسودان للتقرير المبدئي للمكتب الاستشاري القائم بدراسات سد النهضة.

ولتطمين المصريين، خرج رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة وقتها، اللواء كامل الوزير، ومستشار وزير الاسكان لشؤون المرافق مع الإعلامي عمرو أديب في اليوم التالي مباشرة لفشل مفاوضات السد وأعلنا، الواحد تلو الآخر، وفي رسالة متطابقة تحمل بصمات سلاح التوجيه المعنوي للقوات المسلحة عن إنشاء أكبر محطات لتحلية مياه البحر في العالم تحت إشراف الهيئة الهندسية للجيش.

وادعى رئيس الهيئة أنه مكلف من السيسي بالمعاونة في تعويض أي نقص في المياه المستخدمة في الزراعة والري والشرب من خلال إنشاء أكبر محطات لتحلية مياه البحر في العالم. وزعم اللواء كامل أن الهيئة الهندسية تنتج وحدها مليون متر مكعب في اليوم الواحد.

وفي نفس البرنامج كذب مستشار وزير الإسكان معلومات رئيس الهيئة الهندسية، وقال إن الدولة لا تنتج سوى 250 ألف متر مكعب في اليوم فقط، وإن الدولة تعمل على زيادتها إلى 700 ألف متر مكعب بعد إنشاء محطات الجيش الجديدة.

المبالغة في الكمية

ثم جاء دور مصطفى مدبولي، وكان يشغل منصب القائم بأعمال رئيس مجلس الوزراء ووزير الإسكان والمرافق في حينه، لتوصيل رسالة التطمين أو التنويم نفسها التي يحرص السيسي على توصيلها للقلقين على مياه النيل بعد فشل المفاوضات، لكنه زاد الطين بلة، وفند ادعاء رئيس الهيئة الهندسية للقوات المسلحة، وقال إن خطة الدولة لإنتاج المليون متر مكعب في اليوم من مياه البحر سوف تستغرق خمس سنوات كاملة، يعني حتى نهاية سنة 2022، وأكد أنها لم تدخل الخدمة بعد وأنها سوف تخصص لمياه الشرب في المدن الساحلية فقط، وليس في الزراعة والري كما يدعي لواء الجيش.

وفي 9 أكتوبر، وقبل خمسة أيام فقط من تصريحات السيسي في ندوة القوات المسلحة التي أعلن فيها عن إنتاج 1.5 مليون متر مكعب من المياه، قال رئيس الحكومة إن الدولة شرعت في تنفيذ مشروعات محطات تحلية مياه البحر، منذ 4 سنوات، وإن إجمالي طاقة تحلية مياه البحر كانت 80 ألف متر مكعب يوميا، وأصبحنا اليوم تصل إلى إجمالي طاقة 180 الف متر مكعب.

وبذلك يكشف رئيس الحكومة زيف أرقام كامل الوزير والسيسي معًا، فالكمية الحقيقية التي تنتجها الدولة من مياه البحر المحلاة لا تمثل سوى 12% فقط مما يعلنه السيسي، إنها مأساة الأرقام وملهاة السيسي الذي يدعي أن الدولة أنجزت تحت قيادته 11 ألف مشروع بمعدل 3 مشروعات في اليوم.

وبفرض أن الحكومة سوف تنجح في تحلية مليون متر مكعب يوميًا من مياه البحر بعد خمس سنوات، فهذا يعني أن الإنتاج سيبلغ 365 مليون متر مكعب في السنة، وهو ما يزيد قليلًا عن الثُلث مليار متر مكعب، وهو نجاح يحسب لها بلا أدنى شك، ولكن هذه الكمية تغطي بالكاد استهلاك 3 ملايين نسمة من سكان المدن الساحلية في الشرب فقط، وهم في حاجة ماسة إلى هذه الكمية، واليوم قبل الغد، وليس بعد 5 سنوات.

ثم، ماذا يُغني ثُلث مليار متر مكعب من المياه المحلاة عن 10 مليارات متر مكعب، هي معدل استهلاك مصر من مياه الشرب في الوقت الحالي؟ وماذا يُغني ثُلث المليار هذا عن 13 مليار متر مكعب هي حجم استهلاك مصر من مياه الشرب المتوقع بعد 5 سنوات؟ وماذا يُغني ثُلث المليار هذا عن 55.5 مليارا تأتي من نهر النيل هبة من الله بدون مجهود ولا تحلية ولا تكاليف! بالطبع لن تغني عن هذا ولا عن ذاك إلا بمقدار نصف في المائة فقط، فهل نعتبر تحليه مياه البحر بديلًا لنهر النيل العظيم؟!

إهدار مياه النيل

في مطلع هذا العام، أعلن رئيس الوزراء عن إنشاء نهر في قلب العاصمة الإدارية الجديدة، وتسميته النهر الأخضر بطول 35 كيلومترا في قلب الصحراء، كأطول محور أخضر في العالم، وعرض يتراوح بين 300 متر و1500 متر، وذلك محاكاة لنهر النيل الذي يتوسط مدينة القاهرة، وبتكلفة تزيد عن 35 مليار جنيه.

وأعلن رئيس مجلس إدارة شركة العاصمة الإدارية، اللواء أحمد زكي عابدين، عن إنشاء محطة مياه ضخمة لتغذية العاصمة الجديدة من مياه نهر النيل جنوب حلوان، وبطاقة إجمالية 1.5 مليون متر مكعب يوميا، بإجمالي نصف مليار متر مكعب في السنة، وتنقل منها 850 ألف متر مكعب يوميًا من نهر النيل إلى العاصمة الجديدة، وتروي 40 ألف فدان مزروعة بأشجار الزينة. فهل يعقل أن تهدر دولة المياه العذبة في الترفيه والمنتجعات والمتنزهات، ثم تنفق المليارات في تحلية مياه البحر ومعالجة مياه الصرف؟!.

قواعد الجدوى الاقتصادية ومبدأ تكلفة الفرصة البديلة تحتم الاستمرار في استخدام مياه النهر لأغراض الشرب، ومنع إهدارها في الصحراء وتوفير الأموال التي ستنفقها الدولة في تحلية مياه البحر، ولكن من يجرؤ أن يقول ذلك لطبيب الفلاسفة الذي لا يعترف بدراسات الجدوى.

الفساد في التكلفة

ادعاء السيسي أن تكلفة مشاريع التحلية وصلت إلى 200 مليار جنيه هو ادعاء مبالغ فيه بدرجة فجة. فقد أعلن رئيس الحكومة أمام البرلمان أن الحكومة أنفقت 110 مليارات فقط. ولكن بتدقيق الأرقام نجد الفروق أكبر من ذلك بكثير.

ففي نوفمبر/ تشرين الأول 2017، أعلنت هيئة المجتمعات العمرانية عن تنفيذ محطة تحلية مياه البحر شرق بورسعيد بطاقة 150 ألف متر مكعب في اليوم بتكلفة تصل إلى 130 مليون دولار، ما يوازي 2.3 مليار جنيه.

وفي يوليو/ تموز 2019، أعلنت كريم مدور الرئيس التنفيذي لشركة ماتيتو عن تنفيذ محطة تحلية مياه البحر في منطقة العريش بطاقة 100 ألف متر مكعب يومياً بتكلفة 1.6 مليار جنيه وتحت إشراف الهيئة الهندسية للقوات المسلحة التي أصبحت العامل المشترك الأكبر الذي يقبل القسمة في كل مشاريع الدولة.

أرقام هيئة المجتمعات العمرانية وشركات القطاع الخاص تعني أن تكلفة المحطة الواحدة التي تبلغ طاقتها 100 ألف متر مكعب من مياه البحر تبلغ 1.6 مليار جنيه، وبالتالي فإن تكلفة إنشاء محطات تحلية تكفي لإنتاج مليون متر مكعب من المياه يوميًا لا تزيد عن 16 مليار جنيه، على أقصى تقدير.

وبفرض أن الدولة أنجزت محطات تكفي لإنتاج 1.5 مليون متر مكعب من مياه البحر، فإن التكلفة لا تزيد عن 24 مليار جنيه، وليس 110 مليارات كما يدعي رئيس الحكومة، ولا 200 مليار كما يدعي السيسي، ما يعني غياب الشفافية والمساءلة ودور الهيئة الهندسية المريب في الإشراف على تنفيذ محطات التحلية، ويذكر بأرقام الفساد التي كشف عنها رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات السابق، المستشار هشام جنينة، والتي قال إنها وصلت إلى 600 مليار جنيه في سنة واحدة هي 2015.
المساهمون