يسعى مكتب الأمين العام للأمم المتحدة في نيويورك جاهداً إلى تغيير الصورة السلبية حول تخاذل مسؤولين فيها، وإهمال الشكاوى المتعلقة بفضائح الاغتصاب والتحرش الجنسي في مناطق مختلفة ارتكبها جنود تابعون لقوات حفظ السلام أو أصحاب القبعات الزرق، في المجتمعات التي كان من المفترض حمايتها. وخلال الأشهر الأخيرة، يكاد لا يمر أسبوع من دون تصريح للناطق الرسمي باسم الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، ستيفان دوجاريك، عن أي جديد في ما يتعلق بهذه الشكاوى.
أثنى دوجاريك على إعلان جنوب إفريقيا إنشاء محاكم عسكرية في جمهورية الكونغو الديموقراطية. ويواجه جنود كانوا ضمن قوات حفظ السلام اتهامات بالتحرش والاستغلال الجنسي لفتيات في الكونغو. كذلك، رحب بمساهمة النرويج بمبلغ 125 ألف دولار لصندوق ائتمان أنشأته الأمم المتحدة أخيراً، من أجل تقديم المساعدات لضحايا الاغتصاب والاعتداءات الجنسية.
مسؤولون متّهمون
دوجاريك أشار إلى تسجيل 44 حالة تحرش واغتصاب ارتكبها جنود في قوات حفظ السلام الدولية منذ بداية العام الحالي، عدا عن تلك التي سجلت خلال الأعوام الأخيرة. وأكد أن 29 حالة منها سجلت في أفريقيا الوسطى، وسبع في الكونغو، والبقية في مالي وجنوب السودان ومناطق أخرى. وتأتي هذه الفضائح ضمن سلسلة من الاتهامات، أبرزها في تقرير صدر عن منظمة العفو الدولية، اتهم فيه جنوداً من قوات حفظ السلام في جمهورية إفريقيا الوسطى بارتكاب جرائم اغتصاب وتحرش جنسي، بالإضافة إلى قتل أب وابنه. إثر صدور التقرير، طلب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون من مبعوثه لجمهورية أفريقيا الوسطى بابا غاي، تقديم استقالته في شهر أغسطس/آب الماضي، في خطوة تعد سابقة من نوعها.
كذلك، طالب بتشكيل لجنة مستقلة للتحقيق في القضية، وقد تألفت من ثلاثة محققين مستقلين، على رأسهم القاضية الكندية السابقة في المحكمة العليا في بلادها ماري ديشامب. اللجنة قدمت تقريرها وتوصياتها في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، والذي أشار إلى إساءات ارتكبها ثلاثة مسؤولين رفيعي المستوى في الأمم المتحدة، من خلال استخدام سلطتهم. كذلك، اتهمت اللجنة الأمم المتحدة ومسؤولين فيها بعدم التصرف بسرعة.
وخلصت اللجنة إلى توصيات جذرية من أجل تفادي وقوع هذا الأمر مرة أخرى، منها تخصيص صندوق لتقديم المعالجة والمساعدة النفسية والطبية للضحايا، بالإضافة إلى إعلان أسماء الدول التي يثبت اقتراف جنود منها هذه الجرائم، علماً أن هذا الأمر لم يكن متبعاً قبل سلسلة الفضائح الأخيرة.
وكان مجلس الأمن الدولي قد أصدر القرار رقم 2272 في شهر مارس/آذار الماضي، بهدف التصدي للانتهاكات الجنسية التي اقترفها جنود ضمن بعثات حفظ السلام، علماً أن هذه الاتهامات تقوض عمل البعثات ومصداقيتها. كذلك، نص القرار على تأييد الدول الأعضاء لمجلس الأمن "بعودة أي وحدة عسكرية أو وحدة شرطة إلى البلد الأصلي لدى ثبوت ممارسة تلك الوحدة للاستغلال الجنسي والانتهاكات المنهجية على نطاق واسع"، بالإضافة إلى بنود أخرى. واعترضت مصر آنذاك، العضو العربي الوحيد في المجلس، على فقرة تضمنها مشروع القرار وطلبت تعديلها، وتحديداً إعلان اسم بلد البعثة وبالتالي وصم دولة بأكملها. وامتنعت مصر عن التصويت، لكن صادقت على القرار 14 دولة من أصل 15.
تقرير ثوري
تاريخياً، ليست هذه المرة الأولى التي توجه فيها اتهامات بالتحرش أو الاغتصاب إلى جنود أو متطوعين يعملون ضمن القوات الدولية لحفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. في عام 2004، تناولت وسائل الإعلام اتهامات مفادها أن عناصر تابعة لقوات حفظ السلام أقدمت على انتهاكات على نطاق واسع في جمهورية الكونغو الديموقراطية بحق لاجئين في مخيمات مختلفة، بما فيها إجبار نساء وفتيات على الدعارة واغتصابهن. وكان المتّهمون من قوات تابعة لكل من النيبال والمغرب وتونس والأورغواي وباكستان وفرنسا. على إثر تلك الاتهامات، عيّن الأمين العام للأمم المتحدة آنذاك، كوفي عنان، زيد رعد الحسين في منصب مستشار للأمين العام، لمتابعة قضية الاستغلال والاعتداء الجنسي ضمن قوات حفظ السلام. قدم الحسين تقريره عام 2005، وتضمن استراتيجية شاملة للقضاء على الاستغلال الجنسي في صفوف أفراد عمليات حفظ السلام. وكانت تلك المرة الأولى التي يقدم فيها تقرير مفصل إلى هذه الدرجة، وقد وصفه البعض داخل الأمم المتحدة بالثوري. قبل ذلك، كانت الأمم المتحدة قد نشرت تقارير مختلفة تتعلق بخروقات واستغلال جنسي مارسته قوات حفظ السلام في مناطق مختلفة، من ضمنها البوسنة وغرب إفريقيا وغينيا. في مايو/أيار من العام نفسه، أي بعد صدور تقرير زيد رعد الحسين، خصص مجلس الأمن الدولي وللمرة الأولى، جلسة خاصة للنقاش.
عام 2006، أي بعد نحو عام من صدور التقرير المفصل، كشف تحقيق لهيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي" عن استغلال عناصر في قوات حفظ السلام في كل من هاييتي وليبيريا لأطفال، واغتصابهم وإجبارهم على العمل بالدعارة. وساهمت الأمم المتحدة بالتحقيق في الموضوع وكلفت لجنة متخصصة لتقديم توصياتها. وعيّنت مئات المراقبين من المدنيين ونشرتهم في تلك الدول. كذلك، نظمت دورات تدريبية وتوعوية للجنود المشاركين ضمن قوات حفظ السلام حول موضوع الاغتصاب والاستغلال الجنسي. ولم تتبن الدول الأعضاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة في ذلك العام مسودة المعاهدة التي نصحت بها اللجنة، والتي نصت على آليات لمعاقبة المسؤولين.
مذكرة تفاهم
بعد مرور عام على صدور تحقيق الـ "بي بي سي" (عام 2007)، كشفت وسائل إعلام مختلفة عن استغلال جنسي وحالات اغتصاب واسعة ارتكبها جنود في قوات حفظ السلام بحق أطفال في جنوب السودان، علماً أن عمر بعض الأطفال لا يزيد عن 12 عاماً. في العام نفسه، توصلّت الأمم المتحدة إلى مذكرة تفاهم مع الدول المساهمة في قوات حفظ السلام حول آليات التحقيق وتقديم المتهمين إلى العدالة، وصادقت الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على الاتفاقية خلال اجتماعها السنوي.
ولم يتوقف الكشف عن الفضائح والاتهامات خلال السنوات التي تلت التصديق على الاتفاق. واتهم عمال إغاثة ضمن قوات حفظ السلام بالتحرش واغتصاب الأطفال والنساء في ساحل العاج وهاييتي وجنوب السودان. كذلك، اتّهم جنود تشاديون باغتصاب فتيات في شمال مالي. في هذا الإطار، عين الأمين العام للأمم المتحدة لجنة جديدة للتحقيق والنظر في تعامل الأمم المتحدة مع القضية.
وبقي التقرير سرياً إلى أن سرّب إلى وسائل الاعلام من قبل منظمة "عالم خال من الإيدز" في مارس/آذار الماضي. وانتقد التقرير كيفية تعامل الأمم المتحدة والمنظمات المعنية مع القضية، وتقاعس العديد من المسؤولين عن المحاسبة أو إجراء التحقيقات اللازمة. مرة أخرى، سربت المنظمة تقريراً إلى الأمم المتحدة جاء فيه أن جنوداً من فرنسا وتشاد، ضمن قوات حفظ السلام، اغتصبوا 12 طفلاً في مخيم للنازحين في جمهورية إفريقيا الوسطة، في مقابل إطعامهم وإعطائهم المال.
واتهمت المنظمة الأمم المتحدة بمحاولة التغطية على الموضوع والحفاظ على مصالحها وصورتها بدلاً من العمل على مساعدة الضحايا. على إثرها، أقال الأمين العام للأمم المتحدة مبعوثه لجمهورية إفريقيا الوسطى، وتشكيل اللجنة المعنية.
إلا أن مسلسل الفضائح لم ينته، وكشف منذ بداية العام عن فضائح جديدة ارتكبت بحق فتيات في جمهورية إفريقيا الوسطى من قبل جنود في قوات حفظ السلام. في هذا الإطار، تقول بعض المصادر الإعلامية أن مرتكبي هذه الجرائم ينتمون إلى مصر والمغرب والغابون. وتضمنت التقارير معلومات عن اتهامات جديدة لجنود فرنسيين وآخرين من جورجيا ودول أوروبية أخرى باغتصاب فتيات خلال خدمتهم ضمن صفوف قوات حفظ السلام التابعة للاتحاد الأوروبي.