23 يناير 2020
تحديات العلاقات بين العرب وإيران
بعد توقيع الاتفاق النووي الإيراني الغربي، ستمر مرحلة جديدة على منطقة الشرق الأوسط وما حولها. بدأت علاماتها باستعداد إيران للانغماس في السرير الأميركي الذي يبدو أن قادته هم الأكثر تحضيراً لذلك الانغماس، بعد أن تخلوا عن استراتيجية القوة الخشنة التي لم تعد صالحة لتغيير "محور الشر"! فاستبدلوها باستراتيجية القوة الناعمة في عالم العولمة الجديدة، مع الاستعداد للاستفادة من تهديدات القوة السابقة، وتدخلاتها المصغرة واللاسعة، كلما لزم الأمر، كما حدث في عملية قتل بن لادن، أو في بعض الضربات في العراق وسورية.
لا يؤكد آفاق هذه المرحلة فقط الاهتمام والضجة الإعلامية العارمة التي تبعت الحدث، وما زالت تملأ كل وسائط الميديا وتحليلات المعلقين والاستراتيجيين البارزين في الصحافة العالمية والعربية، ولا النقاشات والحملات الإسرائيلية والأميركية المصاحبة لتمريره في الكونغرس، بل يكفي فقط ملاحظة الوفود الغربية التي تقاطرت إلى العاصمة الإيرانية، التي استمرت زهاء عشرين عاماً "مقر محور الشر"، فأصبحت اليوم محجّ المسؤولين ووزراء الخارجية الغربيين الذين كانوا حراس حصار إيران، ومن ثم تبعهم مختلف الاقتصاديين والباحثين عن صفقات المشاريع والرأسمال الغربية المتلهفة إلى تطلعات السوق الإيرانية العطشى، والتي طال تخلفها عن السوق العالمية، وتطور تقنياتها ومنتجاتها في فترة الحصار، والخضوع الطويل لعقوباته.
في المقابل، هناك الزيارات التي يقوم بها الوفد الإيراني، برئاسة وزير الخارجية المفاوض البارع، جواد ظريف، إلى دول الخليج العربي، بدءاً من الكويت إلى قطر، ولا يستبعد وصوله إلى السعودية، الخصم العربي الأبرز للسياسات الإيرانية. وإذا كانت هذه المرحلة الجديدة تؤكد صحة القاعدة المكيافيلية الأكثر شهرة في السياسة: لا صداقات أو عداوات دائمة بل مصالح دائمة! فيبدو أن ذلك غائب كلياً عن توجهات المسؤولين والقادة العرب. فلم نسمع عن زيارات أو مشاورات جماعية أو ثنائية بينهم، تختص بهذا الشأن الاستراتيجي، بينما نسمع عن استغراقهم في مشكلات بلدانهم الداخلية، وما أكثرها، وقد تحول بعضها إلى حروب أو أزمات مستعصية. أو عن انشغالهم بمشكلات جوارهم والدفاع عن خاصرات حدود أقطارهم على أبعد تقدير، أو في تمضية مهرجانية عطلة الصيف، في استعراض مدى اطمئنانهم واستقرار بلدانهم من جهة، ولدعم اقتصاد بلد الصديق وسياحته، من جهة أخرى.
صحيح أن هناك مؤشرات على توجهات لمعالجة أخرى، أولها عاصفة الحزم التي تقودها السعودية، أو تقوم بها وحدها عملياً، وقد بدأت رد فعل مبادر مباشرة على التمدد الإيراني في اليمن، فاستبقت بذلك آفاق المفاوضات الإيرانية الغربية، وفرضت مبادرتها على السياسة الأميركية. لكن ذلك المؤشر يبقى محدوداً وجزئياً، وفي حدود الدفاع المباشر عن الخاصرة، ولا يرتقي إلى مستوى المواجهة أو المعالجة العربية الشاملة لآفاق مرحلة ما بعد الاتفاق النووي الغربي.
والثاني هو التحرك العسكري التركي البادئ أخيراً، بصورة مباشرة في سورية، والذي إن كان محركه البعيد يتصدى للطموحات الكردية بإنشاء دولتهم القومية المستقلة، أو بضم قسم من شمال سورية إلى كردستان العراق، أو هاجسه القريب يتصدّى لإرهاب الدولة الإسلامية المزعومة، فإنه ينصب في مجرى التصدي للتمدد الإيراني الشديد الوضوح في سورية، وعلى الأقل، يفرض دوراً تركياً موازناً، يبدو أنه اضطر أميركا إلى قبوله، فتبعته باقي دول حلف الناتو.
لكنّ هذين المؤشرين باقيان محدودان وجانبيان، حتى تاريخه، ولا يرتقيان إلى مستوى معالجة الآفاق الاستراتيجية للمرحلة الجديدة، فإيران أمة ودولة إقليمية كبرى، وطموحاتها الإمبراطورية معلنة، وليست تدخلاتها الجيوسياسية المباشرة وغير المباشرة في هشيم التفتت العربي بحاجة إلى برهان. أما الوجود العربي فدون مستوى الموازنة، وليس واقع اتحاد دول مجلس التعاون الخليجي أو جامعة الدول العربية، أو اتفاق التعاون العسكري العربي، إلا مثالاً على ضعف تلك الموازنة.
بطبيعة الحال، لا يفترض هذا التحليل التوجه مباشرة إلى مواجهة عسكرية عربية إيرانية، تكرر مصائب الحرب الإيرانية العراقية، وبؤس نتائجها على كامل شعوب المنطقة، لكنه لا يستبعد التلويح بعضلاتها أو اللجوء إليها، وهي عضلات متوفرة عسكرياً ونفطياً ومالياً، لكنها تفتقد الإرادة والقدرة على وضعها على الطاولة، كما يقال في عالم السياسة الواقعية، وإن لاحت بعض مؤشرات ذلك، جزئياً، في عاصفة الحزم، ثم في التدخل التركي.
من جهة أخرى، الإيرانيون والعرب واقعان متجاوران تاريخياً، وافتراض صدامهما الطائفي المستمر إغلاق آخر للتاريخ، وخروج عنه إلى عالم المطلقات والأيديولوجيات النهائية التي سبق إعلان موت معظمها، كالشيوعية والنازية وغيرهما. أما التقدم الدوري فهو سمة التاريخ البشري، على الرغم من مآسي دوراته وكوارثها، كما علمتنا دروس مفكرنا الكبير ابن خلدون. فلماذا لا يمكن التنبه والعودة إلى تاريخ الروابط والثقافة الإسلامية، وإلى فوائد الصداقة بين الشعوب والجوار المشترك، وأمثلة ازدهارها في أوروبا والقارة الأميركية والآسيوية شديدة النجاح في عالم اليوم. وهو عالم منفتح على جنة الاستهلاك الحديث، المصاحب لتقبل التعددية والحوار وثقافة حقوق الإنسان والمواطن، ومن الواضح أن الشعب الإيراني متلهف لأجوائه، فضلاً عن الشعوب العربية.
لكن ذلك كله سيبقى بدون طائل، ما لم يستند إلى بلورة جهد عربي جماعي، يمكن تنسيقه مع حاجات تركيا الصديقة، لكي يكون قادراً على تلبية التحدي المصيري الذي يواجه تطلعات الشعوب العربية. وعلى الرغم من أن الواقع العربي يبدو، اليوم، شديد الاستنقاع، فإن التحديات تصنع المعجزات، وتظهر الطاقات الكامنة لدى الشعوب، وقد آن الأوان ليقظة عربية، تلبي من جديد صرخة إبراهيم اليازجي:
تنبهوا واستفيقوا أيها العرب/ فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب.
في المقابل، هناك الزيارات التي يقوم بها الوفد الإيراني، برئاسة وزير الخارجية المفاوض البارع، جواد ظريف، إلى دول الخليج العربي، بدءاً من الكويت إلى قطر، ولا يستبعد وصوله إلى السعودية، الخصم العربي الأبرز للسياسات الإيرانية. وإذا كانت هذه المرحلة الجديدة تؤكد صحة القاعدة المكيافيلية الأكثر شهرة في السياسة: لا صداقات أو عداوات دائمة بل مصالح دائمة! فيبدو أن ذلك غائب كلياً عن توجهات المسؤولين والقادة العرب. فلم نسمع عن زيارات أو مشاورات جماعية أو ثنائية بينهم، تختص بهذا الشأن الاستراتيجي، بينما نسمع عن استغراقهم في مشكلات بلدانهم الداخلية، وما أكثرها، وقد تحول بعضها إلى حروب أو أزمات مستعصية. أو عن انشغالهم بمشكلات جوارهم والدفاع عن خاصرات حدود أقطارهم على أبعد تقدير، أو في تمضية مهرجانية عطلة الصيف، في استعراض مدى اطمئنانهم واستقرار بلدانهم من جهة، ولدعم اقتصاد بلد الصديق وسياحته، من جهة أخرى.
صحيح أن هناك مؤشرات على توجهات لمعالجة أخرى، أولها عاصفة الحزم التي تقودها السعودية، أو تقوم بها وحدها عملياً، وقد بدأت رد فعل مبادر مباشرة على التمدد الإيراني في اليمن، فاستبقت بذلك آفاق المفاوضات الإيرانية الغربية، وفرضت مبادرتها على السياسة الأميركية. لكن ذلك المؤشر يبقى محدوداً وجزئياً، وفي حدود الدفاع المباشر عن الخاصرة، ولا يرتقي إلى مستوى المواجهة أو المعالجة العربية الشاملة لآفاق مرحلة ما بعد الاتفاق النووي الغربي.
والثاني هو التحرك العسكري التركي البادئ أخيراً، بصورة مباشرة في سورية، والذي إن كان محركه البعيد يتصدى للطموحات الكردية بإنشاء دولتهم القومية المستقلة، أو بضم قسم من شمال سورية إلى كردستان العراق، أو هاجسه القريب يتصدّى لإرهاب الدولة الإسلامية المزعومة، فإنه ينصب في مجرى التصدي للتمدد الإيراني الشديد الوضوح في سورية، وعلى الأقل، يفرض دوراً تركياً موازناً، يبدو أنه اضطر أميركا إلى قبوله، فتبعته باقي دول حلف الناتو.
لكنّ هذين المؤشرين باقيان محدودان وجانبيان، حتى تاريخه، ولا يرتقيان إلى مستوى معالجة الآفاق الاستراتيجية للمرحلة الجديدة، فإيران أمة ودولة إقليمية كبرى، وطموحاتها الإمبراطورية معلنة، وليست تدخلاتها الجيوسياسية المباشرة وغير المباشرة في هشيم التفتت العربي بحاجة إلى برهان. أما الوجود العربي فدون مستوى الموازنة، وليس واقع اتحاد دول مجلس التعاون الخليجي أو جامعة الدول العربية، أو اتفاق التعاون العسكري العربي، إلا مثالاً على ضعف تلك الموازنة.
بطبيعة الحال، لا يفترض هذا التحليل التوجه مباشرة إلى مواجهة عسكرية عربية إيرانية، تكرر مصائب الحرب الإيرانية العراقية، وبؤس نتائجها على كامل شعوب المنطقة، لكنه لا يستبعد التلويح بعضلاتها أو اللجوء إليها، وهي عضلات متوفرة عسكرياً ونفطياً ومالياً، لكنها تفتقد الإرادة والقدرة على وضعها على الطاولة، كما يقال في عالم السياسة الواقعية، وإن لاحت بعض مؤشرات ذلك، جزئياً، في عاصفة الحزم، ثم في التدخل التركي.
من جهة أخرى، الإيرانيون والعرب واقعان متجاوران تاريخياً، وافتراض صدامهما الطائفي المستمر إغلاق آخر للتاريخ، وخروج عنه إلى عالم المطلقات والأيديولوجيات النهائية التي سبق إعلان موت معظمها، كالشيوعية والنازية وغيرهما. أما التقدم الدوري فهو سمة التاريخ البشري، على الرغم من مآسي دوراته وكوارثها، كما علمتنا دروس مفكرنا الكبير ابن خلدون. فلماذا لا يمكن التنبه والعودة إلى تاريخ الروابط والثقافة الإسلامية، وإلى فوائد الصداقة بين الشعوب والجوار المشترك، وأمثلة ازدهارها في أوروبا والقارة الأميركية والآسيوية شديدة النجاح في عالم اليوم. وهو عالم منفتح على جنة الاستهلاك الحديث، المصاحب لتقبل التعددية والحوار وثقافة حقوق الإنسان والمواطن، ومن الواضح أن الشعب الإيراني متلهف لأجوائه، فضلاً عن الشعوب العربية.
لكن ذلك كله سيبقى بدون طائل، ما لم يستند إلى بلورة جهد عربي جماعي، يمكن تنسيقه مع حاجات تركيا الصديقة، لكي يكون قادراً على تلبية التحدي المصيري الذي يواجه تطلعات الشعوب العربية. وعلى الرغم من أن الواقع العربي يبدو، اليوم، شديد الاستنقاع، فإن التحديات تصنع المعجزات، وتظهر الطاقات الكامنة لدى الشعوب، وقد آن الأوان ليقظة عربية، تلبي من جديد صرخة إبراهيم اليازجي:
تنبهوا واستفيقوا أيها العرب/ فقد طمى الخطب حتى غاصت الركب.