هناك عوامل كثيرة تحدد أسعار النفط في العالم، أبرزها النشاط الاقتصادي في الدول المتقدمة والصاعدة، وإن كانت الدول الصاعدة على مدار العقد الماضي تشهد ارتفاعاً في استهلاكها من النفط وسائر المواد الأولية الأخرى.
ولكن حسب تقديرات المؤسسات المالية الدولية فإن معدلات النمو الاقتصادي العالمي هشة، فصندوق النقد الدولي أعلن في يوليو الماضي عن خفض توقعاته لمعدلات النمو العالمي بنسبة 0.3%، ليكون بحدود 3.4% في نهاية عام 2014، وأنه سيكون بحدود 4% في أفضل الأحوال في عام 2015.
أما تقديرات البنك الدولي فكانت أكثر حدة، إذ توقع البنك الدولي أن يكون النمو العالمي بحدود 2.8%.
وأرجع البنك تقديرات المنخفضة لمعدلات النمو الاقتصادي العالمي إلى الأزمة الأوكرانية وما ترتب عليها من تداعياتها سلبية، وكذلك الطقس شديد البرودة الذي مرت به أمريكا في النصف الأول من العام.
ولا يزال العامل الأول الذي اعتمد عليه البنك الدولي في رؤيته التشاؤمية لمعدل النمو العالمي، قائم ويتطور سلبيًا بشكل كبير، وذلك بعد تطور الصراع الغربي الأمريكي من جهة وروسيا من جهة، كجهتين فاعلتين في إدارة الصراع، ومن هنا قد تستمر التوقعات المنخفضة لمعدلات نمو الاقتصاد العالمي لفترة طويلة.
وخلال الأيام الماضية أُعلن أن المملكة العربية السعودية قد خفضت من حجم انتاجها النفطي بنحو 400 ألف برميل يوميُا، ليعاود عند سقف 9.5 مليون برميل يوميًا، وذلك بغية الحفاظ على سعر النفط بحدود 100 دولار للبرميل، كما أخبرت السعودية منظمة الأوبك بهذا التخفيض والغرض منه. وذكر مسئول سعودي أن سياسة بلاده هي أن تكون السعودية بمثابة المرجح لأسعار النفط وليس الصانع لها.
والحقيقة أن سعر النفط في الأسواق العالمية، تغيرت آلياته منذ عقد الثمانينيات، فأصبح سوق النفط هو سوق مشترين وليس سوق منتجين، بحكم أشياء كثيرة، منها أن الدول المستهلكة للنفط تحسن الترتيب فيما بينها لتنظيم الطلب، بينما الدول المنتجة تقع تحت ضغوط كثيرة لاستمرار تدفق الإنتاج مهما انخفضت اسعاره، حيث يعد النفط المورد الرئيس للإيرادات لكثير من الدول المنتجة للنفط.
كما عمدت الدول المستوردة للنفط على ضمان استمرار التدفقات النفطية من خلال سيطرتها على منابع النفط في أماكن كثيرة، وعلى رأسها منطقة الشرق الأوسط.
ولكن يبقى السؤال الذي يحاول هذا التحليل الإجابة عليه، وهو هل تنجح السياسة السعودية في ضبط سعر النفط في السوق العالمي؟ وبخاصة في ظل الأوضاع المتردية للكثير من الدول المنتجة للنفط في منظمة الأوبك.
هناك مجموعة من التحديات تفرض نفسها تجعل من محاولة السعودية القيام بدور ضبط الأسعار، هامشيًا، ومن الصعوبة بمكان أن يتحقق، وفيما يلي نسرد بعض هذه التحديات.
القرار السعودي أتى بناء على توقعات المنظمات الدولية بتراجع معدلات النمو العالمي، فكما جاء في الإعلان السعودي أن قرار تخفيض الإنتاج أتخذ في أغسطس الماضي، وهو ما يؤكد صحة التوقعات بأنه جاء نتيجة لتوقعات المؤسسات الدولية التي صدرت في يوليو 2014.
ومن جهة ثانية فإن القرار السعودي بتخفيض الإنتاج غير مؤثر على حركة السوق بسبب ضئالة الكميات المخفضة، فهي تمثل 0.004 % من الإنتاج السعودي اليومي والمقدر في يوليو بنحو 10 مليون برميل يوميًا.
إن الكميات المخفضة المعلن عنها من قبل السعودية، وهي 400 ألف برميل من الإنتاج اليومي من السهولة بمكان أن يتم تعويضها، من مصادر أخرى، وبخاصة أن الدول المنتجة مثل ليبيا والعراق وإيران ونيجيريا تحتاج أن تضخ كميات كبيرة لتغطية احتياجاتها للنقد الأجنبي، وبخاصة بعد مطالعة الأخبار المتعلقة بتحسن الإنتاج النفطي لليبيا خلال الأيام القليلة الماضية، وعودة موانئ وآبار إنتاج للعمل مرة أخرى، مما جعل أحد المسئولين الليبيين يتوقع عودة إنتاج ليبيا من النفط لنحو مليون برميل يوميًا في أكتوبر القادم.
- وعلى الرغم من وجود تحليلات تذهب إلى وجود تحالف فيما بين إيران والسعودية فيما يتعلق بتحديد أسعار النفط عند مستوى 100 دولار للبرميل، وأنه موقف جديد على العلاقة بين البلدين، بعد تناقض وتنافس بينهما على مدار عقود فيما يتعلق بسياسات الإنتاج والأسعار للنفط، إلا أن الواقع الاقتصادي لإيران يفرض نفسه.
فأمام إيران فرصة سانحة دوليًا لزيادة إنتاجها وتعويض سنوات العقوبات الاقتصادية، ليتراكم لديها رصيد جديد من النقد الأجنبي. ومما يشجع إيران على عدم الالتزام بالدعوة السعودية أمران، الأول أنها تحاول الاستفادة من القيام بتعويض الدول الغربية بإمدادها بالنفط للاستفادة من وقف الامدادات الروسية للسوق الغربية، ومن جهة أخرى هناك ضغوط ووعود اقتصادية قطعها الرئيس الإيراني الجديد على نفسه لتحسين الأوضاع الاقتصادية داخل البلاد، وهو ما يجعل إيران تقبل بأسعار دون الـ 100 دولار للبرميل.
- في اليوم التالي للتصريحات السعودية بشأن خفض إنتاجها من النفط بغرض ضبط الأسعار، شهد أسعار النفط في السوق العالمي تراجع الأسعار لما دون الـ 100 دولار للبرميل، وأُعلن أن النفط الكويتي بيع يوم الخميس 11 سبتمبر 2014 بـ 95.75 دولار للبرميل، وهو ما يعني أن الإعلان السعودي غير مؤثر في السوق، وبخاصة في ظل الكميات الضعيفة التي أعلن خفض الإنتاج السعودي بها.
ولكن هل تستطيع السعودية مثلًا أن تعلن خفض إنتاجها بنسبة 50%، من أجل ضبط حركة أسعار النفط عند المستويات التي ترغب فيها ؟. وبخاصة أن لديها فوائض من عوائد النفط تمكنها من تسيير أمورها المالية دون أدنى مشكلات.
بطبيعة الحال لا تستطيع السعودية أن تناور على هذا السقف المرتفع لانخفاض انتاجها من النفط، بسبب الالتزامات طويلة الأجل التي وقعتها في فترات ماضية، ولعل الرقم الهزيل لانخفاض سقف الإنتاج المعلن عنه من قبل السعودية يبرهن على ضعف الموقف السعودي في أن يلعب دورًا في ضبط أسعار النفط في السوق العالمي، لا من خلال صفته كصانع للسوق ولا مرجحًا لموقف سعري معين.
- الموقف السعودي يراهن على وجود دور لمنظمة "ألأوبك" في ضبط أسعار النفط في السوق العالمي، وهو رهان يخالف الواقع، فكثير ما خالف الأعضاء بمنظمة الأوبك قرارات المنظمة سواء من حيث تحديد كميات الإنتاج أو الأسعار. فكيف تعلن السعودية عن أنها أخبرت المنظمة بتخفيض انتاجها؟
أنه مجرد أمر إجرائي لا يؤثر لدى المنظمة في شيء، ولا يمكن أن يؤدي إلى صناعة دور للمنظمة التي انتهى دورها في السوق العالمي منذ نهاية السبعينيات.
- تدفع السعودية الآن ثمنًا لمواقفها السابقة، خلال أزمات سياسية فرضت على المنطقة، وبخاصة تجاه إيران، وكانت إيران تريد أن تلجأ إلى النفط كورقة للضغط على الغرب لتغيير مواقفه السياسية، لكن السعودية كانت دومًا الظهير للغرب، والعضو المنافس لإيران داخل منظمة الأوبك.
وحتى الآن لم تجد الدعوة السعودية من يقف ليؤيدها، وأظهر وزير النفط السعودي الخميس 11 سبتمبر 2014 عدم قلقه من انخفاض أسعار النفط، وإن كانت الحقيقية غير ذلك، فوكيل وزارة النفط الكويتية صرح بضرورة التنسيق بين دول الخليج في مجمل الشؤون الاقتصادية والنفطية، وهذا التصريح إن دل على شيء، فإنما يدل على أن هناك تأثيرات متوقعة على أداء الاقتصاد الخليجي الذي يعتمد على النفط بنسب تصل لـ 90 % من ناتجه المحلي الإجمالي.
- قد تكون الآثار الاقتصادية لانخفاض أسعار النفط في السوق العالمي محتملة بالنسبة للاقتصاد السعودي الآن، ولكن هناك حسابات أخرى، إذا ما انخفضت الأسعار بمعدلات أكبر مما أُعلن عنه الخميس الماضي عند سقف اقترب من سعر 95 دولاراً للبرميل.
لكن إذا ما واصلت الأسعار انخفاضًا أكبر فسيكون هناك بلا شك تأثير كبير، قد يؤدي إلى إعادة الحسابات في كثير من الشؤون الاقتصادية للسعودية، وكذلك باقي دول الخليج.