تجسس في كوبنهاغن

11 ابريل 2017
+ الخط -
ذهبت وزيرة الهجرة الدنماركية انغا ستويبرغ لدعوة مواطنيها إلى التجسس والإبلاغ عمن يرونه يعمل في مطعم بيتزا ولا يتكلم الدنماركية. جاء ذلك بالصوت والصورة على قناة تلفزيونية واسعة الانتشار، سارت ستويبرغ في اتجاه اليمين المتطرف في طلبها الذي شبهه ساسة محليون بعقلية "ستاسي" أو "عالمثالثية" بخلق أجواء التجسس بين المواطنين وعليهم، وخصوصا من أصحاب البشرة الداكنة. وهؤلاء تحرض عليهم باعتبارهم "مهاجرين غير شرعيين". التعميم هنا يراه المعارضون كارثة تغييب دولة القانون وشق صفوف المجتمع.


في معظم القارة العجوز، الغارقة في أزمة شيخوختها وهويتها، ينتعش خطاب أشبه بما يعرفه اللاجئ من مجتمعات الوشاية والتلصص على أقرب المقربين في العائلة. أضف إلى ذلك ازدهار للشعبوية، وإن كانت صناديق الاقتراع لم توصل هؤلاء لمبتغاهم بعدما باتوا يشكلون عامل جذب لتغيير خطاب هذا اليمين، بل وبعض الاجتماعيين الديمقراطيين، على الأقل في كوبنهاغن. ستويبرغ تعبر عن مبتغاها الواضح منذ أن خلقت أوروبا لنفسها ما سمته "أزمة اللاجئين"، وللخروج من المأزق تعلن صراحة "أريد جعل حياة هؤلاء مستحيلة في بلدنا". تشددت كثيرا في قوانين جائرة، ومنها قانون "الحلي"، حيث يصادر من اللاجئين حتى خواتم الزواج المتجاوز ثمنها لمبلغ معين. ثارت ثائرة الأمم المتحدة على توجه اليمين الحاكم في كوبنهاغن وغيرها، لكن لا شيء أوقف هذا المد الذي تمادى كثيرا.
ما هو المطلوب إذن؟
إن كنت دنماركيا فعليك أن تنصت جيدا لمن يتواجد في مطعم بيتزا تشتري منه وجبتك السريعة. إن وجدت أن شخصا يعمل مثلا على تقطيع البصل ويتحدث بلغة غير مفهومة فعليك الاتصال بالشرطة.. يجب أن تشك بأنه مهاجر غير شرعي.

المشكلة تكمن في أن هذه الوزيرة، ومثلها سياسيون آخرون، ينسون كثيرا بأن لاجئين حديثي الإقامة دفع بهم نحو سوق العمل بدون لغة، بفعل التقشف وأحيانا "القرف" من هؤلاء لما يسميه اللاجئون أنفسهم، ومعهم منظمات حقوقية وأحزاب يسارية "محاولة تطفيشهم". النسيان هنا مقصود لكي تسري عملية تضليل كبيرة تصيب الجميع في التعميم الذي يزرع الشك بكل من يتحدث مع زملائه بلغة أخرى أو لا يجيد اللغة لحداثة إقامته. النقطة التي أثارها اليسار الدنماركي هي بالضبط مخاوفهم من تحويل مجتمعهم إلى "مجتمع التجسس والوشاية"، وزرع ضغينة على كل من هو من أصل مهاجر بالتعميم الذي يجيده اليمين المتطرف.

صحيح أن الأحزاب والقوى السياسية تصدت بحزم لمطالب هذه الوزيرة، لكن ذلك أيضا يعد مؤشرا غير مسبوق في خلق أجواء هي أبدا غير مريحة لمن يحاولون التأقلم والاندماج والعيش تحت سقف المواطنة. المجتمعات التي ينتشر فيها التصرف وفق عقلية سادت في نظام ألمانيا الشرقية، وأنظمة المشرق العربي التي جاء منها أغلبية الجاليات العربية إلى أوروبا، هي مجتمعات تتحول رويدا رويدا إلى التفسخ والتحلل وهيمنة ولاء غير سوي ولا يمت لدولة القانون والمواطنة بشيء.

وطالما أن ذلك لم يعد يكلف كثيرا، لا قانونيا ولا سياسيا، وللأسف ولا حتى مجتمعياً، سوى في فورات سرعان ما تنطفئ أمام أول خطا فردي يسقط على المجموع، فإن الجاليات أيضا أمامها مسؤولية متعاظمة في مسائل التأقلم والاندماج وفهم العلاقات الاجتماعية والثقافية والقانونية التي تحكم مجتمعات الاستقبال.


كل ذلك يمكن أن يجري بعيدا عن لغة الاستعلاء والتشنج تجاه ثقافة وحياة الآخرين الذين استقبلوا الآلاف ذات يوم من عام 2015 وهم يبحثون عن أمان مرحبين بهم وما زالوا... ولأجل مساعدة هؤلاء في التصدي للتحولات المتطرفة تحتاج تلك الجاليات أيضا للبحث جديا في كيفية نزع كل الحجج عن هذا اليمين المتطرف، والمتغلغل أكثر في سياسات رسمية لحكومات غربية تتماهى معه خوفا من فقدان الشعبية، ملامح الأمر بادية في إسكندنافيا وألمانيا وهولندا وفرنسا وبقية الدول.. وكوبنهاغن نموذج ساطع وواضح في الاتجاه.
المساهمون