تجديد الثورة أم هلاكها؟

30 ديسمبر 2017
+ الخط -
لم يجد الروس طريقة يتعاملون من خلالها مع السوريين غير الاستهانة بمشاعرهم الوطنية، والاستهانة بهم "شعوباً"، ما أن تؤمر بالقدوم إلى قاعدة عسكرهم الذي يقتل أبناءها، حتى تهرول صاغرة إليهم، والسعادة تغمر قلوبها، لأنهم منّوا عليها بلقاء تقرّر فيه أفضل شروط الاستسلام للقائد التاريخي العظيم بشار الأسد، والعودة إلى حضنه كوطن، تعمد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، إهانته وإذلاله كل مرة قابله فيها، لكنه دعاهم إلى قاعدته العسكرية التي تقصفهم ليل نهار، كي يراهم وهم يقبلون حذاء من وصفته صحافته ذات يوم "ذيل الكلب"، وقد تجرّدوا من آخر ما لهم من كرامة: رأس مالهم الشخصي والجماعي الذي قاتلوا دفاعاً عنه سبعة أعوام مهلكة، غرقوا خلالها بدمائهم حتى أنوفهم، بيد أنهم لم يتخلوا عنها كي يستسلموا لبشار.
ارتبطت كرامة السوريين، على مر تاريخهم، بوطنيتهم، بشعورهم بالانتماء إلى شعبٍ متحضّرٍ أقام نموذجاً من التعايش الآمن بين أبنائه، بينما ضجّت منطقته بصراعاتٍ وتمزّقات عنيفة، أنتجها عجزها عن صياغة تفاهماتٍ توافقيةٍ حول مشتركاتٍ تتيح لهم العيش الآمن، بعضهم إلى جانب بعضهم الآخر. خلال الزلازل التي تعرّضت لها بلدان شرق أوسطية وعربية، تلاعبت القوى الخارجية بها، كان الشعب السوري يغادر حالة الملل، ويتقدّم نحو حال وطنية مكّنته من تقصير عمر الانتداب، وبناء مؤسسات دولةٍ وطنيةٍ بفضل نظام تعليمي حديث، وأحزاب سياسية مثلت مختلف شرائح السوريين، ونقابات عمالية ومهنية، ونظام قضائي التزم غالباً بالقانون، وصحافةٍ حرةٍ نسبياً ذات مستوى مهني جيد، وحياةٍ نيابيةٍ لم تخلُ من فساد، لكنها لم تخلُ أيضاً من تمثيل ومعارك التزم من خاضوها بمصالح المجتمع، وحكومات ترأس بعضها قادة العمل الوطني ضد الاستعمار.
لعبت الروح الوطنية دوراً جدّياً في رفض دعوة بوتين إلى لقاء ما أسماها "الشعوب السورية". ومن الضروري أن لا يكتفي السوريون اليوم برفض المشاركة في لقاء سوتشي، ورفض الانصياع لقرار موسكو مصادرة إرادتهم وحقهم في اختيار من يريدونه، الذي أكده وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، كل مرة طالب أحد فيها برحيل الأسد، وواجهه بالقول: للسوريين وحدهم الحق في تقرير مصير الأسد، وها هو نائبه يبلغهم أن على من يقرّر منهم الذهاب إلى سوتشي أن يعلن قبول رئاسته، لأنها ليست موضوع نقاش.
واليوم، وأمام تصاعد المد الوطني، وما تأكد أخيراً، وهو أن روح الوطنيّة ما زالت تخفق في قلوب أبناء شعب سورية المكلوم، وحلم الحرية ما برح يحفز ثورتهم، ولا بد أن يتجسّد، من الآن فصاعداً، في مؤسسةٍ سياسيةٍ تمثيليةٍ ينتخب أعضاؤها مباشرة في أهالي مختلف المناطق، داخل سورية وخارجها، بما في ذلك بعض الخاضعة منها للنظام، فترفد النضال الوطني بدم نقي، آتٍ من شعبٍ تغرّب ممثلوه غير المنتخبين عنه. الآن، حان الوقت لبناء مؤسسةٍ جديدةٍ، تقودهم باقتدار خلال الفترة العصيبة المقبلة، لن يكون في وسع أحد تجاهلها، لأنها منتخبة لتمثل قطاعات الثورة جميعها: من المحامين والقضاة والصحافيين والكتاب والمثقفين والمهندسين والأطباء والمسعفين، والتنسيقيات والمجالس المحلية، ومنظمات المجتمع المدني، والنقابات، والمدرسين والأساتذة الجامعيين، ورجال الدين والأعمال، والتجار، والفصائل المقاتلة، والتنظيمات النسائية والشبابية... إلخ. بعد انتخابهم سيشكل ممثلو الشعب "الهيئة السورية الحرّة" التي ستتولى قيادة العمل الوطني في مختلف مجالاته، على أن يرشح أعضاء "الائتلاف" الحاليون أنفسهم في الدوائر التي يختارونها، وينضوي الناجحون منهم في التشكيل الجديد.
هذه الخطوة المفصلية ستعبر مؤسسياً عن النهوض الوطني الذي بدأنا نعيشه، وسيحدث اتخاذها نقلةً نوعية في العمل الثوري السوري العام، بفضل ممثليه المنتخبين الذين سيتعاملون من موقع قويٍّ مع العالم، كأصحاب شرعية شعبية مماثلة لما تتمتع به حكوماته، وسيصدرون قرارات أكثر استقلالية من كل ما عرفته الثورة، وأكثر قدرة على الإفادة من أنشطة طيف ثوري واسع من المواطنين، سيتخلى عن شكوكه المحقة بشأن تمثيل مؤسسات المعارضة الحالية للثورة التي تدخل مع "سوتشي" في لحظة مفصلية، لن يكون حالها بعدها ما كان عليه قبلها، فإما أن تقودها هيئة منتخبة، تجدّد مؤسساتها وطنياً، أو أن يزداد عجزها عن مواجهة التحدّي الروسي إلى أن تحل الهزيمة بالشعب الذي لن ينقذه من الإبادة على يد الأسدية غير ثورة جديدة، يعرف الله وحده إن كانت ستأتي، ومتى.
E4AA2ECF-ADA6-4461-AF81-5FD68ED274E9
ميشيل كيلو

كاتب سوري، مواليد 1940، ترأس مركز حريات للدفاع عن حرية الرأي والتعبير في سورية، تعرض للاعتقال مرات، ترجم كتباً في الفكر السياسي، عضو بارز في الائتلاف الوطني السوري المعارض.