تان تان: شريط تحريفات ضمنيّة

24 ديسمبر 2016
(غرافيتي من "تان تان" في بروكسل، تصوير: ماتيو ريس)
+ الخط -
في محاضرة قدّمها مؤخراً في "المعهد الثقافي الفرنسي" في القاهرة، حاول المستعرب الفرنسي لوي بلان أن يبيّن بأن مبدع شخصية تان تان، الفنان البلجيكي هيرجيه، لم يكن يقدّم رسوماً مصوّرة يمكن وسمها بالاستعمارية، معتبراً أن الأصح هو القول إنه كان ابناً للفترة التي عاش فيها، وامتدّت على طول القرن العشرين الذي جعلته أوروبا قرناً استعمارياً بامتياز.

يشير بلان إلى ازدواجيةٍ وسمت الرجل الأبيض في استكشافه لما هو خارج حدود قارّته العجوز، ما سيُعرف لاحقاً بالاستشراق. يقول "بعد التحديث الصناعي ظهرت أزمة تعريف الهوية الأوروبية، حاول البعض استكشافها في الشرق، باعتبار هذه المنطقة من العالم أم الحضارات".

تُمثّل ألبومات هيرجيه - بحسب بلان - جهل الأوروبيين عموماً للعرب، وغيرهم من غير الأوروبيين، مضيفاً أن الفنان البلجيكي "جعلنا نتعاطف طوال الوقت مع شخصياته غير الأوروبية والتي لم يصوّرها - خلافاً للمنطق الأوروبي السائد وقتها - باعتبارهم مجموعة من الرعاع غير المتحضّرين".

الرؤية التي طرحها المُحاضر تبدو وردية بعض الشيء، إذ تترك جانباً مفاعيل الإمبريالية وطغيانها لصالح السطوة الجمالية لشخصية تان تان نفسها وشهرتها الواسعة، وحتى صدقها الفني وجاذبيتها، وقبل ذلك مثاليتها. أضف إلى كل ذلك ما قاله المستعرب عن التحدّي الأكبر الذي واجه هيرجيه والمتمثّل في "العنف المتزايد الذي صبغ قرنه الذي عاش فيه"، الأمر الذي لا يبدو معه أن تان تان في زيارته إلى الشرق كان يحفل بما يُمارس من عنف على هذا الشرق وفوق أرضه. لعلّ ذلك يكشف الكثير عن هيرجيه الذي يقدّم رجل أوروبا الأبيض باعتباره مخلّص العالم.

يشير المحاضر إلى أن هيرجيه حين أظهر شخصيته تان تان على أرض فلسطين في إحدى ألبوماته عام 1939، "لم يكن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يهمّ أحداً وقتها". هذه الإشارة ذاتها تكشف عن هذه النظرة المتضخّمة للذات الأوروبية، والتي لم تسلم من نقد هيرجيه اللاذع لها في ما يخصّ نكوصها عن لعب دورها التبشيري في العالم.

حتى هذه الإشارة العابرة لصراع كانت جذوته تتّقد أمام أعين أوروبا وبمباركتها لصالح العصابات الصهيونية وقتها، سيخضع لاحقاً في الترجمة الإنكليزية لتحريف متعمّد. يوضح بلان أنه "أثناء حرب حزيران/ يونيو 67 زاد التعاطف الأوروبي مع الصهيونية، وفي الترجمة المتزامنة مع ذلك التاريخ أُبدلت فلسطين في قصة تان تان بدولة خيالية، وحلّ الاسم خيمنا محلّ مدينة حيفا، ليصبح عالم القصة فانتازياً بامتياز".

لا يتحمّل هيرجيه بالتأكيد وزر ما جرى في ألبومه، إنما ينبغي هنا التأكيد على ذلك الخط الذي ينتظم فيه ذلك التلاعب السابق، فإعادة تشكيل التاريخ الذي مارسه الرجل الأبيض إذ بدأ بإعادة تصوير وتشكيل الهوية العربية واختراع الشرق ذاته، سيبدو معه مفهوماً ذلك التحريف الذي طاول عمل هيرجيه من أبناء جلدته أنفسهم.

في ختام محاضرته، لفت بلان النظر إلى أن الأسماء العربية في ألبومات تان تان جاءت في أغلبها محوّرة عن أصولها "نلحظ مثلاً EMDADDINE والتي يمكن اشتقاقها من أسماء عربية عدة"، وهي إشارة يمرّ عليها بشكل عابر حيث يخفى عليه - أو لا يذكر - ذلك التلازم في اختيار أسماء عربية تركيبيتها تشتمل على مفردة الدين.

لعلّنا هنا نلحظ مفاعيل الاستشراق على هيرجيه، وإن بشكل لا واع، فالشرق بحسب الرؤية الاستشراقية، لم يقدّم إلا باعتباره مرادفاً للدين، ذلك الذي كانت أوروبا قمعته بعد صراعٍ دامٍ مع الكنيسة، وبالتالي أصبح مرادفه في الذهنية الغربية ليس إلا التخلّف والانحطاط، وهنا تحديداً ينبغي مرة أخرى مساءلة هيرجيه عن الصورة التي قدّمها للعرب في أعماله، والتي ربما ليست بتلك الحيادية التي طرحها المستعرب الفرنسي في محاضرته.


دلالات
المساهمون