يبدو الفلامنكو كأنه صرخة انبثقت من العدم. لا أحد يستطيع أن يحدّد لها نقطة بداية، وإن رُبط عادة بحياة الغجر ترافقهم في حلّهم وترحالهم وتؤانسهم في طبيعة خشنة وقاسية.
تشهد بشيء من ذلك مجموعة الوثائق المعروضة في أروقة "المكتبة الوطنية الإسبانية" في مدريد، في معرض استعادي بعنوان "تاريخ ثقافة الغناء العميق"، والذي يشتمل جميع ما يضمّه أرشيف المكتبة من وثائق؛ كتبٌ ومخطوطات وصور فوتوغرافية ولوحات وملصقات وأسطوانات وتسجيلات من مختلف الأصناف.
الفلامنكو، حسب هذا المعرض، إبداع غجري يكتنف بداياته كثير من الغموض، وكان أول من ترك أثراً مادياً ملموساً عن هذا الفن هو ثيربانتس في كتابه "روايات مثالية" وتحديداً في قصة "الغجرية الصغيرة"، وتلك الشخصية الرائعة المسماة بريثيوسا. الكتاب المعروض طُبِعَ من قِبَل خوان دي لا كويستا عام 1613 مع باقي "الروايات المثالية" الأخرى.
في المعرض أيضاً، نجد عملاً أدبياً آخر لـ خوسيه كادالسو هو "رسائل مغربية" المعروض في مخطوطة تعود إلى القرن الثامن عشر، كما نجد أيضاً صورة طبق الأصل لملصق يعود إلى سنة 1781 لـ "رقصة غجر".
كما تناول الفلامنكو إستيبانيس كالديرون في "مشاهد أندلسية" الذي نشر قبل 170 سنة، وهو كتاب لم يتحدّث عن الفولكلور الأندلسي لتلك الفترة التاريخية كفن مكتملٍ وناجزٍ بل باعتباره فناً في طور التشكّل، إذ لم يكن تقليداً راسخاً وإنما تلاقح خلاسي سعيد بين إيقاعات وأصوات قادمة من أفريقيا وأميركا والعالم العربي تجذّر في التربة الإسبانية.
هكذا توضّح الوثائق الطريق الذي سلكه الفلامنكو منذ بداياته المعتمة وحتى يومنا هذا، وأغلبها وثائق لم يسبق لها أن عُرضت من قبل، وعددها 125 وثيقة، وهي تمنح الزائر صورة عن تراث الفلامنكو ومساراته وانعكاساته في الأدب والفن. المعرض أعدّه كل من دافيد كالثادو، محرّر مدوّنة "فلامنكوليكوس" (مدمنو الفلامنكو)، وتيو سانشيث، مدير برنامج "دويندياندو" الإذاعي، وسيستمر حتى الثاني من أيار/ مايو المقبل.
من أبرز المعروضات، ما تركه لنا غويا؛ تحفة فنية منجزة عبر تقنية الحفر بين 1824 و1825، معنونة بـ "الفيتو"، وثيقة من ماضي الفلامنكو معروضة ضمن هذا الأرشيف لكن يمكن أن تكون أيضاً تمثلاً استباقياً للحظة الراهنة للفلامنكو.
كما نجد صوراً أخرى نادرة؛ تلك التي التقطها المصوّر الفوتوغرافي تشارلز كليفورد سنة 1862 والمعنونة بـ "الغجر يرقصون في قصر الحمراء"، كما وضع المصوّر الفوتوغرافي الإشبيلي إميليو بووشي سلسلة كاملة عن هذا الفن عام 1889، ونشر خوان أنطونيو دي إيزا ثاماكولا (دون بريثيسو) أول مجموعة من الأغاني الشعبية الإسبانية، فيما يطل فورتوني عبر رسم لمشهد تعبيري غنائي مثلما يحضر الشاعر الإشبيلي غوستافو أدولفو بيكر أيضاً في المجال الأدبي عبر تصويره لمشهد فلامنكي في مجلة "المتحف العالمي".
جانب آخر يضيئه المعرض، وهو تمثّل الرحّالة الرومانسيين في القرن التاسع عشر، ممّن وجدوا في الغناء العميق وروافده ملهماً حقيقياً يثير أحاسيسهم منذ شارل دافيليي أو غوستاف دوريه. وعندما نصل إلى ديموفيلو، وهو أب الشاعرين أنطونيو ومانويل ماشادو، نعرف أنه كباحث في مجال الأنثروبولوجيا والفولكلور كان أول من حدّد الفلامنكو باعتباره فنّاً موسيقياً مستقلاً وذا طابع يميّزه عن غيره.
ومنذ ذلك الحين أتت القفزة الكبرى إلى الأمام؛ توزّعت مقاهي الغناء، وظهرت أسطوانات الفونوغراف الشمعية التي كانت تعيد أولى الأغاني المسجلة قبل ظهور "الأسطوانات الحجرية" التي سيعرف معها الفلامنكو ذيوعاً أكبر وانتشاراً أوسع.
لقد تطوّر الفلامنكو ممارسة وتنظيراً منذ بدايات القرن العشرين وصار تلقّيه أكثر عمقاً وتعقيداً على المستوى الموسيقي والغنائي والكوريغرافي. صار أيضاً أكثر سحراً وإثارة، نظر إليه "جيل 98" بحذر وريبة، ومن "جيل 27" ساهم لوركا بشكل فعّال في تطويره مع مانويل دي فايا.
أسطوانات الفلامنكو لقيت انتشارها الواسع وانتقلت من يد إلى يد، عبر أصوات المعلّمين الكبار من مثل: سيلفيريو، وأنطونيو شاكون، ومانويل توري، وتوماس بابون، ومانويل باييخو... بعد ذلك، صار شابيس نوغاليس يكتب أخباراً عن أفضل العروض من باريس التي صارت تسافر إليها "طيور الفلامنكو" ثم إلى جميع أنحاء العالم.
قصة آخرى لافتة يقدّمها المعرض، قصة راقصة الفلامنكو كارمنثيتا (1868-1910) المعروفة بأنها أول امرأة جرى تصويرها في تاريخ السينما. كارمنثيتا قدّمت عرضاً أمام 12 ألف متفرج في ساحة "ماديسون غاردن" في نيويورك، والتقط لها إميليو بووشي صوراً فوتوغرافية خالدة، وهي أول راقصة فلامنكو عبرت جبال البيرينيه (البرانس) لتستقر في باريس، وهناك وقفت أمام أشهر الرسامين مثل جون سنغر سارغنت ووليام ميريت تشيس.
في معرض "تاريخ ثقافة الغناء العميق"، تمرّ أمامك صور لولا فلوريس وكارمن أمايا في لقطات اصطادها خوان خيينيس وغيره من المصوّرين. صورٌ تنقل أحياناً أشجان أصوات مانولو كاراكول، وكامارون دي لا إيسلا، وخفايا معزوفات باكو دي لوثيا وإينريكي موريينتي، في فضاء واحد مع ملصقات وآلات موسيقية وأسطوانات وتسجيلات ومخطوطات وكتب ولوحات تشكيلية نادرة، إنه سفر يتتبّع آثار الفلامنكو من خلال وثائقها.