تاريخ إيطاليا بعد الحرب

13 سبتمبر 2015
(باريس: ترجمة دار غراسيي، 2015)
+ الخط -
حين يلتقي رأس المال بالسياسة والصحافة يصبح قول الحقيقة مستحيلا. وللاستدلال على هذه الأطروحة يجمع أمبرتو إيكو في روايته الأخيرة "العدد الصفر" مجموعة من الصحافيّين الفاشلين للإيهام بإصدار صحيفة لن ترى النور أبدا عنوانها "دوماني" (الغد). يقع ذلك في مدينة ميلانو بين شهري أبريل/نيسان ويونيو/حزيران من سنة 1992. وليس اختيار هذه الفترة من باب الصدفة. فقد شهدت إيطاليا آنذاك فضيحة رشاوى ذهبت بالطبقة السياسيّة كلّها.

تبنى حبكة الرواية على قصّة أساسيّة تتوالد داخلها قصص فرعيّة تبلورها وتبرز الموضوع الرئيسيّ فيها، وهو استحالة الصحافة التي تقول الحقيقة في عالم الفساد المعمّم. فما يكشف عنه إيكو، في سخرية لاذعة وباطّلاع مبهر على خبايا عالم الصحافة والفاعلين فيه ورهاناتهم، إنّما هو شبكة من التلاعب بالعقول والابتزاز والتآمر والتواطؤ وتضارب المصالح واستثارة العواطف على نحو يفقد العمل الصحفيّ استقلاله ومصداقيّته. وهو يقدّم خلال ذلك الانحرافات الكبرى للصحافة من إدعاء بالموضوعيّة وتوجيه للقارئ وخلق جدل حول موضوعات تافهة ساذجة وتصريف ذكيّ للأكاذيب.

خيوط السرد
تنطلق الحكاية من مسعى رجل أعمال (فيمركاتي) إلى تأسيس صحيفة يوميّة. وفيمركاتي من الأثرياء الذين يملكون فنادق وبيوتا للمتقاعدين والعاجزين وباقة من التلفزات المحلّيّة للبيع عن طريق التلفزيون وللمزاد العلني وحوالي عشرين نشريّة للعراء والجرائم والأسفار والسيّارات والزوارق الشراعيّة. إنّه صاحب إمبراطوريّة ماليّة وإعلاميّة يشبه كثيرا سلفيو برلسكوني.

ويتكفّل سيميي بالإشراف على إعداد الصحيفة اليوميّة واختيار المحرّرين. وهو رجل بلا مزايا ولا صفات مميّزة يجمع على عجل ستّة صحافيّين: براغاتشيو الصحفي المختصّ في كشف الفضائح والمهووس بنظريّة المؤامرة، ومايا فريزيا الشابة التي لم تتمّ دراستها واشتغلت في صحيفة فضائح وكمبريا المفتون بالأخبار الطازجة التي يستقيها من مخافر الشرطة ولوسيدي الذي ساهم في صحف لم يسمع بها أحد! (والأرجح انه جاسوس يختفي وراء صفة صحفيّ) وبالاتينو صاحب الخبرة في الألعاب والكلمات المتقاطعة وكوستنزا الذي كان مصحّحا في مطبعة!

اختار سيميي كولونا، راوي الحكاية كلّها في صيغة يوميّات، ليكون مساعدا له يراجع المقالات ويوحّد أسلوبها. وهو رجل في الخمسين أخفق في دراسته ولكنّ إلمامه باللغة الألمانيّة مكّنه من أن يشتغل مترجما ومصحّحا وقارئا في دور النشر وكاتبا يعير قلمه بمقابل. إنّه كاتب عديم الموهبة لكنّ معرفته موسوعيّة "فمتعة التبحّر في العلم من اختصاص الخاسرين" (ص 19 من الترجمة الفرنسيّة). كان الاتفاق مع كولونا يقضي، من جهة اولى، بمساعدة سيميي على إدارة اللعبة. فالمموّل لا يريد للجريدة أن تصدر ويقضي، من جهة أخرى، بإعارة قلمه لوضع كتاب يصدر باسم سيميي حول تجربة "العدد الصفر" مقابل أموال تخرجه من فقره على أن يختلق مذكّرات تعبّر عن ملحمة سيميي في السعي إلى تأسيس صحيفة مستقلّة عن أيّ ضغط فتنتهي مغامرته بخيبة لأنّ الواقع لا يريد سماع الصوت الحرّ.

أمّا الكتاب الذي يروي ملحمة سيميي الكاذبة فلم يكتب بسبب إنهاء تجربة "دوماني" بسرعة بعد أن عثر على بوغاتشيو مقتولا وهو يعدّ تحقيقا حول البغاء على ما زعم الراوي. وأمّا الصحيفة فكان مقدّرا لها منذ البداية ألاّ تصدر لأنّ المموّل كان يريد أن يسمع بها أصحاب المال والنفوذ حتّى يتمكّن من اقتطاع تذكرة الدخول إلى نواديهم. فهي صحيفة للابتزاز توهم بأنّها تمتلك ملفّات عن الجميع قد تتضمّن كشفا لفضائح قد تحرجهم أو تسيء إليهم أو تتهمهم مباشرة في عمليّات مشبوهة.

فضائح الصحافة
ومن خلال اجتماعات هيئة التحرير يشرع إيكو في لعبة تعرية فضائح العمل الصحفيّ. فكان سيميي يعلّم الصحفيّين تقنيات توجيه الخبر والقارئ. من ذلك كيف يكون التلاعب بالأقوال الموضوعة بين قوسين وآراء الشهود وانتقاء الأخبار "فليست الأخبار هي التي تصنع الصحف بل الصحف هي التي تصنع الأخبار" (ص 59). ومن دروس سيميي صنع الأحداث والمواضيع المثيرة وبث الشكوك في كلّ من تسوّل له نفسه تكذيب خبر مختلق مع الإيهام بصدقيّة مصدر الخبر الكاذب ووجود وثائق تدعّمه. ومن تقنيات الإثارة التلميح بدل التصريح وبث الإشاعات والتذكير عند وقوع كارثة بالكوارث المشابهة لمزيد التأثير مع الحرص على طمأنة القرّاء البورجوازيّين الطيّبين المغرمين بالتقوّلات بدل إدخال الفزع على قلوبهم. وفي المسائل الخطيرة ينبغي التلاعب بالعناوين حتّى لا يقع التصادم مع النافذين. فإذا كان الحديث عن القاضي "فالكوني" ولا بدّ من التعريج على المافيا وشجب النقص في عدد رجال الأمن فالاحتياط واجب حتّى لا تقع الصحيفة في المحظور بمعاداة رجال الشرطة و"الكازا نوسترا".

والمشكلة الأهم بالنسبة إلى الصحافة هي كيف لها ألاّ تزعج المموّلين والسلطة ورجال الأعمال والنافذين. وحاجة الصحفيّين إلى لقمة العيش تجعلهم يقبلون هذه القيود على الحقيقة بل يرضون بالإهانة. ومن تحدياتها أيضا كيف مسألة استمالة أوسع جمهور ممكن بنشر أخبار الخوارق والمعجزات وتجنّب الثقافة والأدب والحديث عن الكتب. وهذا كلّه حسب الراوي يجعل الناس يسيرون شيئا فشيئا نحو فقدان الإحساس بالخزي والعار من الفظائع التي تحدث ما دامت "الصحف تكذب والمؤرّخون يكذبون والتلفزيون اليوم يكذب" (ص44). ومن البيّن أنّ ما يدعو إليه إيكو في عالم الكذب المعمّم إنّما هو الشكّ في ما يعرض علينا من أخبار.

بورتريه لتاريخ إيطاليا بعد الحرب
ولئن كان ما سجّله الراوي في يوميّاته بمثابة الهجاء المقذع للصحافة فإنّه كان كذلك سردا لعلاقة الحبّ التي جمعته بمايا من ناحية وما أسرّ به بوغاتشيّو لكولونا حول السبق الصحفيّ الذي سيمكّن "دوماني" لو صدرت من بيع مئة ألف نسخة من ناحية ثانية.

وهنا يرسم إيكو بورتريه ساخرا لبوغاتشيو ومن خلاله للقائلين بنظريّة المؤامرة وللصحافة الإيطاليّة (وغير الإيطاليّة في حقيقة الأمر). وهو يقدّم بالخصوص بورتريه لبلاد "الدولشي فيتا" طيلة نصف قرن من الفساد والعنف وشبكات المافيا وتواطؤ الإعلام... ولم ينج منه حتّى الفاتيكان.

فبوغاتشيو، محمولا بهوس هذيانيّ، يعيد بناء ما شهدته إيطاليا من مؤامرات ومخطّطات منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية إلى التسعينيات. ومفاد نظريّته أن الدوتشي لم يعدم في أبريل 1945 بل قتل شبيها منه. وقد يسّر له الحلفاء والكرسيّ البابويّ الاختباء لأنّهم يخشون ممّا لديه من أسرار مزعجة. فقد لجأ إلى الفاتيكان ثمّ فرّ إلى الأرجنتين حيث واصل من هناك مخطّطاته الجهنّميّة. فجميع تحرّكات المخابرات واستراتيجيّة التوتّر واتفاقيّات المافيا مع الدولة والتفجيرات والاعتداءات وتصفية البابا جون بول الأوّل والانقلاب الذي خطّط له أقصى اليمين ومحاولة اغتيال البابا جون بول الثاني واغتيال ألدمورو والألوية الحمراء... إلخ كان لمنع وصول الشيوعيّين إلى السلطة.

وعلى هذا النحو يسترسل بوغاتشيو في طرادات واسعة تختلط فيها وقائع التاريخ بما توسوس له نظريّة المؤامرة من تخيّلات يسدّ بها الفراغات أو يجعلها سدى لتماسك روايته لتاريخ إيطاليا المعاصر.

والمفارقة أنّ الصحافة باعتبارها تأريخا للراهن تُغرق منطق التاريخ في الجري وراء السبق الصحفيّ. فتفسير بوغاتشيو عبر نظريّة المؤامرة لتاريخ البلاد استحال هذيانا وهراء في حين أنّ المؤامرة مجسّدة أمامه في المشروع الذي انخرط فيه دون أن يفطن إلى ما وراءه. إنّه الغباء عينه: يبحث عن مؤامرة تشدّ ما تناثر من معطيات التاريخ والحال أنّه ضحيّة مؤامرة يشارك فيها ويتلاعب به محرّكوها.

الروائيّ الوفيّ لأسلوبه
إنّ الجديد الذي يأتي به إيكو في روايته "العدد الصفر" إنّما هو معالجته سرديّا لتاريخ إيطاليا المعاصر. فقد اشتهر لدى قرّاء رواياته على الأقلّ بمعرفته الدقيقة بالأرشيف وما تحويه خزائنه من نفائس ونوادر وأسرار سواء حين تناول تاريخ القرون الوسطى وتفاصيلها وذهنيّاتها في "اسم الوردة" ورواية "بودولينو" أو عندما اختار التجوال في القرن السابع عشر في رواية "جزيرة اليوم السابق" وفي القرن التاسع عشر في رواية "مقبرة براغ". والواقع أن كتابات كثيرة غير روائيّة لإيكو تثبت أنّه غير منفصل عن الاهتمام بالشأن العام أو بالتاريخ المعاصر والراهن ولكنّه اختار هذه المرّة أسلوب السرد ليبلّغ أفكاره.

ورغم أنّ هذه الرواية تبدو أقلّ من سابقاتها توسّعا في عرض المعارف التي تقدّمها للقارئ فإنّها لم تخرج عن النمط الروائيّ الذي اختاره إيكو في أعماله السرديّة. وهو نمط لا يخلو من تميّز وغرابة في الآن نفسه. إذ نجده قريبا من الرواية القائمة على أطروحة ولكنّها ليست منها كلّيّا. وهو لا يخلو من ازدواج بين تقديم حكاية مشوّقة ممتعة وتضمين ثقافة واسعة عميقة سواء بشواهد صريحة أو بالتلميح إليها. وعلاوة على هذه الخصائص المميّزة لكتابة إيكو الروائيّة نجد بعض التوابل التي يصنع منها رواياته كلّها. من ذلك السخرية وهي تلفّ الرواية من بدايتها إلى نهايتها ومواضع الاستدلال الذهني (في بداية "العدد الصفر" في لغز قطع الماء في بيت الراوي) والاستطراد في أثناء تفصيل الحبكة الروائيّة (كحديثه عن أنواع السيّارات وتقارير التشريح الطبّيّ) والتداخل بين الحكاية والمحاكاة الساخرة (كما هو بيّن في إعلانات الزواج في روايته هذه).

لقد قدّم إيكو درسا في ما لا ينبغي أن تكون عليه الصحافة. ولا ريب أنّ أيّ صحفيّ، مهما يكن بلده، يقرأ "العدد الصفر" سيرى ملامح من صورته في مراياها المضخّمة المقعّرة أحيانا والمحدّبة أحيانا أخرى.

* أكاديميّ وروائيّ من تونس

بيوغرافيا
ولد أمبرتو إيكو في 5 يناير/كانون الثاني 1932. وهو باحث جامعيّ وروائيّ معروف بكتاباته في السيميائيّة والجماليّات الوسيطة والإعلام الجماهيريّ وفلسفة اللغة. شغل منصب مدير المعهد العالي للعلوم الإنسانيّة بجامعة بولونيا الإيطاليّة وهو الآن أستاذ متميّز فيها منذ سنة 2008. واشتهر لدى الجمهور الواسع منذ ان أصدر روايته البكر الحدث "اسم الوردة" التي سرعان ما اقتبست للسينما وترجمت إلى عشرات اللغات فعرفت نجاحا منقطع النظير.
وهو يساهم بانتظام في الصحف اليوميّة والأسبوعيّة بكتابة أعمدة تتناول مواضيع الساعة من زاوية المثقّف الباحث عن المعنى وراء نثار الأحداث.
.
المساهمون